تسجل وسائل الإعلام الدولية النزيهة الأحداث غير السارة التي يتعين ريف الحسيمة مسرحا لها، والتي برزت إلى الوجود منذ مقتل بائع السمكالريفي«محسنفكري»طحنا في شاحنة نفايات بعدما صادر رجال الشرطة أسماكه(28 أكتوبر2016)، وهو الحدث الذي بات يعرف- لدى المغاربة-بقضية«طحنمّو». و منذ ذلك الوقت أكدت الشعارات التي حملها الآلاف من المحتجين الذين يخرجون،يوميا، إلى شوارع الحسيمة سلميةَ الحراك الريفي، وبينت طبيعة المطالب الاجتماعية العقلانية التي رفعها المغاربة الريفيون إلى المسؤولين على البلاد، وخاصة الحكومة المغربية التي فشلت في خلق قناة نزيهة للتواصل مع السكانوالتقرب إليهم، فاكتفت باللجوء إلى الصمت، والتعتيم الإعلامي، وآثرت استراتيجية العنف الذي عمق الأزمة، وأجج الاحتجاجات التي مازالت تراهن على السلمية، على الرغم من عسكرة المنطقة برمتها، واستفزاز القوات البوليسية المكثفة للمحتجين من خلال الاعتقالات، والتعنيف ضربا وركلا ورفسا… بغاية إخماد أصواتهم، وزرع الرعب في نفوسهم، وإكراههم على الاستسلام لقوة السلطة وسيطرتها وجبروتها. وما يسترعي انتباه المتتبع للحراك الريفي هو استدعاؤه للذاكرة بماهي فعل مرتهن بما يتذكره المواطن الريفي من ممارسات«المخزن»بمنطقة الريف في فترة زمنية عرفت بسنوات الجمر والرصاص؛ إذ يبدو أن الشعارات القديمة التي رفعتها الأجيال السابقة(1985-و1984)عادت لتحيا مرة أخرى على لسان الجيل الجديد الذي مازال يحتفظ بذكريات القمع، والاغتيال، والاختطافات القسرية، والتعذيب، والتعتيم…، فقد تفجرت الاحتجاجات تضامنا مع قضية محسن فكري، باعتباره نموذجا للمواطن الريفي الفقير المغبون، ولكن تعامل السلطة مع الأحداث بمنطق اللامبالاة والمراهنة على البعد الزمني الذي يقود الاحتجاج إلى ذاكرة النسيان، قاد المنطقة إلى مزيد من الاحتقان، وخاصة بعد موجة الاعتقالات غير المبررة التي استهدفت القياديين الميدانيين للحراك؛ من أمثال: ناصر الزفزافي، ومحمد جلول، والمرتضىا معراشا… وإذا كانت الذاكرة فعل يستمد الحياة -بتعبير جون ديوي- بفضل الفعل الانفعالي المؤسس على علاقة الذاتالانفعالية بالحوادث التي تستفزها، وتثير فيها فعل التذكر الذي يرتبط بشكل من الأشكال مع وقائع الحاضر وممارساته، فإن ذاكرة الريفيين تحضر، ههنا، بوصفها ذاكرة للممانعة، تتغذى على علاقة أبناء الريف بالأحداث التاريخية العنيفة التي شهدتها الحسيمة والمناطق المجاورة، والتي مازالت راسخة في اللاوعي الجمعي الريفي، بسبب حضور المؤثرات النفسية التي تسوق حراك الريف إلى الاستمرار؛ ذلك أن حضور الأحداث المستفزة وانتشارها بشكل أقوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع، يغدو معينا يغترف منه وجود الممانعة ، ومسوّغا يمنحها الشرعية المطلقة لمواصلة النضال الاجتماعي، من أجل إعادة كتابة التاريخ، وتصحيح المغالطات التي سجلتها السلطة بحق المنطقة منذ خطاب«الأوباش» الشهير(يناير1984). إن استدعاء خطاب الاستعلاء في ذاكرة الريف يبعث ذاكرة الممانعة، ويوجهها إلى محاورة السلطة بشأن وجودها وشرعيتها ومصداقيتها، ويدعوها إلى بلورة وعي جديد في التعامل مع ممارسات الممانعة، بما هي رد فعل طبيعي تجاه ممارسات القمع التاريخية. ولا ريب في أن الإصرار على تجاهل الآخر المعارض/الممانع لا يعني انتصار السلطة/القوة مهما بالغت في توظيف جبروتها، لأن فعل الممانعة الذي يقتات على ذاكرة الانكسار والقهر، لا يركن إلى الاستسلام مادام التذكر فعلا تخييليايتغيى تحقيق أحلام الذوات المحتجة، ولا ينتهي، البتة، سوى بتلغيم خطاب السلطة وتفجيره ونسفه، وجعله يبدو هزيلا بتعبير فوكو. فاللافت أن الحراك الريفي يصدر عن وعي بمشروعية الممانعة التي تتعين ضربا من ضروب المقاومة الاجتماعية لكل مظاهر القمع والقهر و«الحكرة»التي مورست على المنطقة، ولا مرية أن ظهور المقاومة يعتبر مؤشرا شديد الأهمية على تشكيل الوعي التحرري لدى الغالبية العظمى من المواطنين الخاضعين للسلطة المطلقة، ويؤكد اقتناعهم بأهمية الحراك الثوري في خلق أوضاع جديدة، تستدعي المعايير العقلانية التي تنظم العلاقة بين السلطة والممانعة، والتي تتأسس على الكرامة، والعدل، والمساواة. كما أن السلطة تدرك أن الممانعة فعل مقاوم يهدد بقاءها الأنطولوجي، ولذلك تسعى إلى خلق كل إمكانيات التغلب عليها في مهدها. وبهذا المعنى، يبدو أن حراك الريف يصدر عن إيمان الذات الثائرة بفعل الممانعة، باعتباره حقا كونيا، وانطلاقا من رغبتها في التواصل مع السلطة بناء على معايير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، التي تستدعي خلق فضاء للحوار الذي يستبعد التصورات الدوغمائية، ويرتهن بمعايير الوجود الإنساني المؤسس على استجابة السلطة للقاعدة الشعبية التي تشرعن وجودها السياسي، وتمنحه المصداقية القانونية. ولذلك، فمن المستبعد أن تشهد هذه الأزمة انفراجا قريبا مادام رجل السلطة يراهن على استعمال القوة المادية، ولا يركن إلى طاولة الحوار المؤسس على التسامح، والتضامن، والتكافل، لأن استعمالالعنف-في عرف السياسيين- يعد مؤشرا قويا على فشل المؤسسة السياسية الرهيب، فضلا عن أن التعامل مع الريف بعقلية المخزن التقليدية قد يسوق فعل الممانعة إلى منعرجات تتخطى المطالبة بالالتفات إلى المنطقة في مستويات التنمية الاجتماعية؛ من قبيل: الصحة، والسكن، والتشغيل، والتجهيز، والتعليم…، إلى الرغبة في تحقيق تنمية شاملة تستدعي السياسي، وتضعه موضع مساءلة تاريخية؛ وخاصة أن الصراع بين الممانعة والسلطة استمر طويلا، واستنفذ جميع أشكال التهدئة بعد التقارير التي رفعتها كل من«المبادرة المدنية من أجل الريف»، و«لجنة تقصي الحقائق حول أوضاع الحسيمة»، والبيان الذي أصدره أكثر من500 مثقف مغربي حول الحراك، والتي أكدت جميعها سلمية حراك الريف، ومشروعية مطالبه، ودعت إلى المصالحة التي تنطلق، في البدء، بإطلاق سراح جميع المعتقلين، والإسراع بالنهوض بالأوضاع الاجتماعية لمدينة الحسيمة ونواحيها.