مباشرة بعد تسلم مقاليد السلطة من المستقيل "ديفيد كاميرون"، أعلنت "تيريزا ماي" بصراحة وبكل حزم: "لن نحاول البقاء في الاتحاد الأوروبي، لن نخرج من الباب لنعود من النافذة، كما لن نجري أي استفتاء جديد: البريكسيت تعني البريكسيت". رئيسة وزراء بريطانيا العظمى صرحت أن خروج بلادها من النادي الأوروبي سيعقبه تركيز على الجبهة الداخلية لإنعاش الاقتصاد وتقوية الجانب الاجتماعي. سلطة وقرار تمتلكها رئيسة وزراء دولة ليس لها دستور مكتوب، إن هي إلا مجموعة أعراف مرسخة منذ ثلاثة قرون، تقسم السلطات بين الملكة أوالملك، رئيس(ة) الوزراء، وباقي المؤسسات. ولأن الأمانة ندامة لمن لم يتحملها، فقد قامت الملكة إليزابيث على مدى ستين سنة بتفويت مجموعة من سلطها طواعية لرئيس الوزراء أوللوزراء. في بلد يدعي الاستثناء والسبق والريادة في محيطه العربي على المستوى الديمقراطي، نرى كيف خشي رئيس أول حكومة باختصاصات واضحة الاقتراب من سلطات منحها له دستور (الفلتة)، ففوتها إما زلفة وتقربا من أولي الأمر، أوخشية من الفخاخ والتماسيح والعفاريت وباقي حيوانات الغابة. أما العثماني "المعين"، فلم يلحظ له أحد وجودا بقرار سيادي واحد، حتى أن البعض عرض مكافأة لمن يرشد على مكانه، خصوصا في أحلك أيام تظاهرات الريف. قد يقول قائل لا تقارن بين الثرى والثريا، نحن المغرب وهم بريطانيا! يكون الجواب أن الشعوب كما الأفراد دائما تتطلع للأفضل، فلا يلومك أحد حين تستخدم تكنولوجيا الاتصال الحديثة والهواتف الذكية مع أنك لم تخترعها! أجهزة وتقنيات يستخدمها أناس في كندا وأمريكا وألمانيا. حتى على صعيد الدول، فبلدنا الحبيب لطالما افتخر بتقليد أمه بالتبني فرنسا. جل مؤسساتنا الدستورية الجديدة هي نسخ من مؤسسات فرنسية وأمريكية، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمحكمة الدستورية ومجلس المنافسة. فلما إذا التشبه بالغرب شكلا والابتعاد مضمونا؟ لماذا نعشق دور القرد الغبي الذي يأكل القشرة ويرمي اللب؟ حس "تيريزا ماي" الليبرالي لم يمنعها من إعلان حرب ضروس على الأغنياء وكبريات الشركات غير المسئولة ضريبيا منذ أيامها الأولى في الحكم. حثت مجلس العموم على سن قوانين أكثر صرامة ضد التهرب الضريبي، وقالت أنها لن تسمح للشركات بازدواجية الهوى: الاستثمار في الخارج وإهمال تكوين وتشغيل مواطني بريطانيا من جهة، والهرع للدولة طلبا للإنقاذ كلما ضاقت الأرض بما رحبت من جهة أخرى. السيدة "ماي" أكدت سعيها للمحافظة على مستوى معيشة المواطن المرتفع، وتماسك المجتمع كصمام أمان لا غنى عنه. في بلدنا الحبيب، استعرضت أول حكومة منتخبة عضلاتها في أول سنة من تسيير الشأن العام وليس الحكم، مثل الطفل الفرح بلعبته الجديدة. نشرت لوائح قيل أنها لمن يملكون الملايين والمليارات دون وجه حق، لكن القضاء لم يواكب حركة الحكومة، فكانت غصة في حلق شعب آمن ذات يوم بالتغيير. رئيس الحكومة حاول الاقتراب من الحيتان الكبيرة قبل أن يجد نفسه منكشفا أمام الكبار، بلا قوانين تمنع هروب الأموال للخارج، ولا قضاء يردع ويسجن، إضافة لبرلمان أقسم بأغلظ الأيمان أن لا يجرم بالحبس من يتهرب من أداء ضريبة في ذمته. النتيجة أن التفت بنكيران للحل السهل: طبقة المغرب الوسطى، صمام أمان الوطن ورافعة تنميته، فانهال عليها بلا رحمة بضرائب وزيادات وسحب الدعم دون هيكلة مسبقة، واقتطاعات وهلم جرا. في المقابل، وحتى لا تبقى الصورة سوداء قاتمة، قدم رئيس الحكومة ما لا يتجاوز مصروف جيب للأرامل اللاتي يعلن أولادا، لكن بإجراءات لا نهاية لها. قبل قرار الانتخابات المبكرة في أبريل، أكدت الحكومة البريطانية عزمها إقرار قوانين صارمة تتحكم في بيع وتفويت الشركات الوطنية لنظيراتها الأجنبية، كما حافظت على تقليد توطين البنوك، فجميع مصارف المملكة المتحدة مملوكة للشعب. في مغرب العجائب، ومنذ ثمانينات القرن الماضي، كانت الحكومات المتعاقبة تختار الحل السهل: تفوت شركات القطاع العام الناجحة "البقرات الحلوب" للأجانب بعذر عدم كفاءة التسيير، وبعلاوات تحت وفوق الطاولة، وعمولات تمر أمام أعين مكتب الصرف "سمن على عسل"، قبل أن تظهر شركات وشققا فاخرة في باريس، واستثمارات وحسابات سمينة في بنما وسويسرا. المغرب كذلك اختار التفريط في آخر ممتلكاته من البنوك (حصة الدولة في البنك الشعبي المركزي) سنة 2012 لتمويل مجهودات إخماد حريق الربيع. أنا ومن بعدي الطوفان! الديمقراطية المحلية، كما المركزية، لم تجهد نفسها بالتفكير في الحلول والبدائل، بل اخترعت أسهل الطرق لتضخيم حسابات رؤساء الجماعات والمدن وإفراغ خزائن الوطن: التدبير المفوض، الذي يعني حقيقة تبذيرا مفوضا، حيث ملايين الدراهم ترسل يوميا لشركات النظافة والنقل في إسبانيا وفرنسا، مقابل دراهم معدودات تدخل خزائن المدن والبلدات. الدول المتقدمة تختار حلولا مبتكرة، صعبة لكن ناجعة، فتلجأ لما يعرف بمفهوم "الشركات الوطنية": التسيير على شاكلة مجالس إدارات الشركات، والملكية للدولة. أما دول التخلف والظلام، فتختار الحل السهل حتى وإن عنى غرق أجيال متعاقبة في مليارات الدراهم ديونا، كما حال مكتب الكهرباء والماء، الذي اشترى أمنا اجتماعيا للآباء، قبل أن يهدد أمن الأبناء وألأحفاد بفواتير فلكية ما أنزل الله بها من سلطان. موعدنا في الحصة المقبلة إن شاء الله