يلاحظ المتأمل لمجريات الأحداث وخصوصا في السنوات الأخيرة حجم المتغيرات التي تعرفه المجتمعات البشرية وذلك على كافة الأصعدة. فقد ثارت الشعوب وبشكل مفاجئ على الأنظمة والأشكال القائمة بكل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا واسبانيا واليونان وغيرها وأنتجت توجهات سياسية جديدة قطعت مع النمط السائد لعقود عديدة. ومن حسن حظ هذه الدول أنها بلغت مستوى عالي من تكريس النهج الديموقراطي وصون الارادة الجماهيرية مما مكّن شعوبها من التعبير عن رغبتها في التغيير من داخل النظام القائم. فكان تغييرا في صيرورة النظام لا تبديلا له. غير أن هذا المعطى الديموقراطي يغيب في معظم الدول العربية، ما يجعل مطلب التغيير وطرق التعبير عنه وكذلك النتائج المترتبة عنه أمرا مفتوحا على كل الاحتمالات. كان الربيع العربي احدى التجليات الكبرى لمطلب التغيير عند الشعوب العربية والتي تصدت له الأنظمة القائمة اما قمعا أو مداراة أو حصارا وتخوينا. بدأت هذه الموجة التغييرية بحالة من الشك والتشكيك، ما لبثت أن توطدت بعد سقوط نظامي بنعلي ومبارك فأصبح الكل ينادي بأحقية الشعوب في التغيير وحتمية زوال أنظمة القمع الفاسدة المُفسدة. لكن سرعان ما سقطت أوراق الربيع بتكالب المتربصين الحاقدين من الداخل والخارج وتراكم أخطاء حملة آمال الشعوب في التغيير واستعجالهم لجني ثمار تحول لم تترسخ بعد قاعدته وتتضح معالمه. فصار الربيع خريفا وبات يُلعن صباح مساء وغدا نموذجا يضرب به المثل لخراب الديار وتهور الشعوب واستحالة التغيير. امتزجت حالة النكوص الداخلية هذه مع مستجدات خارجية أساسها صعود بعض رموز القومية والعداء للدين الإسلامي وتمكنهم من الإمساك ببوصلة الشؤون الدولية، الأمر الذي حذا بقوى الثورة المضادة الى المرور من سياسة مداهنة واحتواء تيار التغيير الى مقاربة مبنية علىالاستئصال والتخوين والاقصاء. غير أن الرد الشعبي لم يتأخر كثيرا، فجاء في النموذج المغربي من الريف بعد سلسلة من الأحداث والاحتجاجات الشعبية التي همت مجموعة من المناطق والفئات والتي قوبلت عموما بالعنف والقمع. ليكون بذلك حراك الريف وما تلاه من تعاطف وتأييد من مختلف الجهات والشرائح المجتمعية تعبيرا متجددا للشعب عن مطلب التغيير ورسالة للدولة أن نهج الاستبداد والبطش والاقصاء لن يثني الشعب عن طلب حقه في الحرية والكرامة والعدل. إزاء هذا وأمام تسارع عجلة التاريخ وتوالي الأحداث وتقلب المواقف والتحالفات شرقا وغربا وفي خضم تراكم الأخطاء الاستراتيجية وتعاظم الاكراهات وتكالب الغيربما ينذر بقرب إعادة تقسيم بعض الدول وانهيار أخرى، نتساءل عنمسار ومآل مطلب التغيير في الحالة المغربية عبر رصد كرونولوجي للوقائع خلال العقدين الماضيين بغية الوقوف على الداء واستخلاص الدواء. المرحلة الأولى: التغيير واستراتيجية الانفتاح وتثبيت الحكم يتمثل الهدف الاستراتيجي لكل نظام سياسي في البقاء وضمان استمراره في الحكم. لذلك تبنت الدولة في بداية العهد الحالياستراتيجية ذات طبيعة تغييرية، وإن ظاهريا، قصد تجاوز حالة الشك الذي ميز انتقال الحكم وكذلك لوضع بصمة جديدة للعهد الحديث. تجلت هذه المقاربةفي الاعتراف بالماضي الأسود في مجال الحقوق والحريات عبر انشاء هيئة الانصاف والمصالحة وإحداث نوع من الثورة في السياسة الخارجية (اقتراح حكم ذاتي للصحراء، العودة فيما بعد لمنظمة الاتحاد الافريقي…) ثم تبني مشروع التنمية البشرية كقاطرة للتواصل وتسويق صورة النظام لدى مختلف الشرائح المجتمعية إضافة الى سن سياسة الأوراش الكبرى والمشاريع الضخمة. توجه واكبه من الجهة الأخرى مجموعة من التدابير المصاحبة والتي تجسدت خصوصا في الهيمنة على مختلف دواليب الاقتصاد واحتكار أغلب أنشطتهثم تقوية وتوسيع دائرة الريع في شتى الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية قصد اخضاع المستفيدين. نتج عن هذه المقاربة بروزمغرب بوجهين: الأول مكون من نخبة الدولة و"خدامها" والذي لا يرى إلا الإنجازات والأوراش والثاني الذي يمثل عامة الشعب والذي لا يرى إلا ما يعيش من فقر ومرض وبطالة وظلم…فظهر في الساحة لاعبون جدد يعبرون عن آلام هذا الأخير ويعدون بالفرج ومواجهة الفساد والاستبداد. المرحلة الثانية: التوجه نحو نموذج بنعلي اقتضى سيناريو الهيمنة على الشأن المغربي، إخضاعوإضعاف كلالفاعلين من أحزاب سياسية ونقابات عماليةوالنيل مما تبقى من مصداقيتها. وتطلب مواجهة الوافدين الجدد (الاسلاميون) على المشهد السياسي نزول أحد أقرب المقربين الى عالم الشعب تحت ستار حزبي. فكان الهدف هو توْنسة المغرب (اقتباسا لنظام حكم آل بنعلي) عبر تعددية شكلية ممنوحة ومصطنعة مع تحكم كلي في دواليب التسيير والإدارة والاقتصاد. غير أن هبوب رياح الربيع العربي أوقف هذا التوجه ودفع بعرابيه الى التواري والتراجع للخلف. المرحلة الثالثة: هبوب رياح الربيع العربي وتكتيك الانحناء للعاصفة كان حراك الشعب سنة 2011 في مجمله تعبيرا عن رغبة في التغيير وسعيا في ارساء جو الحرية والديمقراطية واملا في القطع مع ماضي الفساد والاستبداد ودحر رموزهإلا ان مخرجات هذه الهَبّة لم تتح بلوغ هذه الاهداف الساميةولم تمكن من بلورة التغيير المنشود. فقد نهجت الدولة تكتيك الاحتواء وسياسة الانحناء للعاصفة من خلال امتصاص حماس المطالبين بالتغيير والايحاء بتقديم تنازلات من قبيل صياغة دستور جديد وتوسيع صلاحيات المنتخبين وسن سياسة محاربة الفساد. تنازلات ما لبثت ان تراجعت عن مضمونها بعدما خفَت ضغط الشارع وأفَل الربيع. المرحلة الرابعة: الانقلاب على التغيير وعودة سياسة الهيمنة والاقصاء هكذا فقد كانت المحصلة أن عادت حليمة إلى عادتها القديمة.فالإيحاءبالتغيير نحو الدمقرطة ومجتمع الحق والقانون لا يعدو أن يكون خطة مرحلية بالنسبة للدولة تمليها ضرورات اللحظة لتعود بعد ذلك لنسقها الاستراتيجي المبني على الهيمنةوالاقصاء والاستبداد. الأمر الذي تجسد عبر إفراغ الانتخابات من جدواها وتعيين حكومة لا تمت بصلة بنتائج الاقتراع ثم تبني مقاربة أمنية قمعية تجاه مختلف الاحتجاجات القطاعية والمجالية. سياسة نتج عنها شعور عميق بخيبة الأمل لدى الشارع وفقدان الشعب للثقة في المؤسسات والهيئات التمثيلية وانفضاضه عن الشأن العام. ذلك أنه عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة كما يقول عالم الاجتماع عبد الوهاب المسيري. المرحلة الخامسة: انبعاث الموجة الثانية من حراك الشعب مع انبعاث صوت الحراك من جديد فإن مسار الأحداث تظهر أن ردّ الدولة لن يختلف كثيرا. ستأخذ لِتُبدي بعد ذلك أنها تعطي وتتنازل. ستعتقل أناسا لتمنّ بعد ذلك بالعفو. ستضحي ببعض خدامها لتظهر للأشهاد أنها تحارب الفساد. وكل ذلك انما لتدبير اللحظة والهروب الى الأمام لعل الزمن يجود بحل استعصى. يختزل عدد كبير من المتتبعين والمحللين مطالب الحراك في مسائل اجتماعية واقتصادية وثقافية من قبيل إيجاد الوظائف وتوفير التطبيب وتحسين ظروف التعليم وايلاء الثقافة الأمازيغية مزيدا من العناية. وهذه في جوهرها حقوق لا مطالب، قد لا تَعجز الدولة عن توفيرها ان كان لديها الإرادة والكفاءة. لكن المطلب الأهم الذي يحمله شباب الحراك يتعدى تغيير الواقع المعيش عبر هذه المطالب/الحقوق الى تغيير نظرة الدولة للشعب وهو النصف المنسي من التغيير والذي يُراد تغييبه عن النقاش.هذا الشق الذي يعبر عنه بتعابير شتى مثل "مطلب الكرامة" أو "رفض الحكرة" يجسد تحولا في نفسية الشعب إزاء الدولة. فمقصد الشعب لم يعد يقتصر على مطالب مادية حياتية وانما يتجاوزها الى آمال الحرية والكرامة والعدل والمشاركة الفعلية في القرار. هكذا فإن مظاهر الخوف والانقياد والاستسلام للظلم التي سيطرت لعقود على أجيال كاملة نتيجة مخلفات سياسة القمع والاستبداد بدأت تتبدد وتنجلي رويدا رويدا. تحول وإن كان نسبيا لاستمرار هاجس التوجس والحذر لدى بعض فئات المجتمع وخاصة الميسورة والمتوسطة وتخوفها من فقد المكانة او التضييق عليها ودفعها بالتالي لدركات الفقر والهشاشة، فإنه لا يخفي لدى ذوي المروءة من هذه الفئات حلما بمجتمع المساواة والاخاء والحرية. الداء والدواء انطلاقا من هذا السرد التاريخي، يتضح أن أمام الدولة خيارين لمعالجة الحراك الشعبي: أولا: أن تستمر الدولة في نهج التكتيك المرحلي وتتبنى المقاربة الأمنية لمواجهة الحراك والتصدي له بالعنف والقمع حتى يخفت صوت الشارع. هذا فإذا كانت كتيبة التقتوقراط و"الويويون" (نسبة الى من يقول دائما نعم نعم -وي وي) التي تدبر الملف لم تدرك بعد أن هذه الآليات أصبحت متجاوزة فإنه من الغباء الاستمرار في سياسة النعامة هذه التي تعالج الأعراض وتتجنب الخوض في الأسباب والتيلا يمكن بأي حال أن تفضي الى حل. فهذا التوجه هو عين الداء وقد يستفحل في الجسد فتتطلب معالجته إجراءات أكثر مشقة وخطورة كالإنعاش والجراحة والبتر… ثانيا: أن تدرك الدولة أن الوطن يتسع للجميع، وخيراته كفيلة بإشباع وإغناء الجميع. فالمغرب مؤهل لأن يضاعف ناتجه وانتاجه أضعافا مضاعفة وفي زمن قياسي لما حباه الله من موقع استراتيجي وخيرات طبيعية والأهم من ذلك من كفاءات بشرية عالية وشعب مجد ومتفان. فالتوزيع العادل للثروة وإرساء مجتمع الحق والقانون والحرية والكرامة والعدل والمساواة وإشاعة قيم الجد والعمل كفيلة بدفع البلد الى مصاف الدول المتقدمة. فصمام أمان أي نظام يتجسد في دعم شعبه لا في دعم واشنطن أو باريس أو البنك الدولي.وهذا الخيار هو الدواء الكفيل لتجنيب البلاد رجات الصراعات والثورات والاحتجاجاتمن الداخل وتكالب وابتزاز الأغيار من الخارج وهو القادر كذلك لحل مشكلته المزمنة في الصحراء، فالمثل المغربي يقول "حتى قط ما كيهرب من دار العرس". أخيرا، فإن التاريخ يشهدأن سنة الله لا تحابي أحد. فكل لبيب ينظر الى عمق التاريخ ومسار المجتمعات المتقدمة ويؤمن بالبشارة المحمدية ليدرك يقينا أن البقاء والمستقبل مرتبط بالخيار الثاني وأنّ الباطل والظلم والاستبداد وإن طال امدهم فهم الى زوال. والأمر مجرد وقت قد يقصر وقد يطول. فلو دامت لأحد لما وصلت الى الآخر.