لا تخطئ العين ما يجري على قدم وساق في بلادنا من ردة ونكوص على المنهجية الديموقراطية، وتراجع واضح عن جملة من المكتسبات، وكأننا بصدد التحضير لمجزرة تذبح فيها الحريات السياسية، وينحر فيها الدستور، ويقتل فيها بصيص أمل المغاربة من التحرر من قبضة الفساد والاستبداد، ويتوج فيها التحكم في ثياب شبه عسكرية يمطر المغاربة بسلسلة من البيانات المرقمة، ترعد وتزبد وتهدد، وتعلن عن الموت السريري للمسار الديموقراطي. من يتابع هوس بعض مؤسسات الداخلية من فترة غير قصيرة، وظهور آثار الحمى الزائدة عليها، وهستيريا البلاغات والممارسات، يدرك الحالات المتقدمة لمرض التحكم الذي يعتمل في جسمها، والتفاعل القوي للفيروسات والميكروبات المضادة للديموقراطية والشفافية والنزاهة وتقرير الشعب لمصيره، ويخيفه النزوع القوي عند البعض للردة وإغلاق القوس وإجهاض ابتسامة الأمل. ماذا يعني إيقاف أنشطة ثقافية واجتماعية عادية كانت تمارس بنفس الطريقة لسنين؟ وماذا يعني استهداف الاحسان في رمضان وهو ما ألفه المغاربة ودأبوا عليه من عقود؟ وماذا يعني عرقلة التخييم للأطفال والشباب ممن يظن دورانهم في فلك الحزب المرغوب فيه لامتصاص غضب الشارع والمكروه في نفس الآن من جهات التحكم حتى لا يستمر مع شركائه في الاصلاح؟ وهو التخييم الجاري به العمل في كل سنة في مختلف مناطق المغرب وبنفس الفقرات التنشيطية تقريبا، - ماذا يعني منع برلمانيين من تواصلهم مع السكان كما هو الشأن مع الأستاذ عبد العزيز أفتاتي والأستاذ المقرئ الادريسي أبو زيد؟ ومنع وزراء من القيام بدورهم في تأطير المواطنين والتحدث في مهرجانات في الساحات العمومية كما حدث مع السيد مصطفى الخلفي والسيد عبد العزيز رباح؟ ماذا يعني عدم الرغبة الصادقة في تصحيح اللوائح الانتخابية الحالية وإعادتها على أسس سليمة تخلصها من الموتى والتكرار والكثير من الشوائب؟ وماذا يعني التوجس من تسجيل المواطنين في اللوائح الانتخابية؟ والمفروض أن يكون التسجيل تلقائيا لمن له الحق في ذلك بمجرد البطاقة الوطنية، وتشجع كل مبادرة لتوسيع التسجيل عوض لوم من يبادر في تأطير المواطنين في هذا الاتجاه. - ماذا يعني تحرك التحكم بكل ما يملك من آليات، داخل جسم المعارضة وداخل جسم الأغلبية لفرض تخفيض العتبة إلى ثلاثة في المائة، عوض الصعود بها إلى عشرة أو إبقائها على الأقل كما كانت في ستة، والحفاظ على حد أدنى من عقلنة المشهد الحزبي عند التحالفات؟ إنها بحق أحجار غليظة ترمى في طريق السالكين في المسار الديموقراطي للفرملة وتعويق السير حتى يمل من يمل وينسحب من ينسحب وتدمى قدم من يصر على المسير. - ماذا يعني الكلام المعسول في حق مغاربة العالم، وإطراء الخطابات في حق جاليتنا في الخارج، ومنعهم من حقهم المشروع في المشاركة في الانتخابات؟ واللعبة مكشوفة للعيان، لو جاءت الأخبار من تلك البلدان ترجح تصويت جاليتنا على الحزب المعلوم ومن يشبهه في القابلية للتحكم فيه، لما كان التردد لحظة في منحهم حق التصويت ولتيسرت السبل والوسائل ولزالت العراقيل، ولكن المؤشرات تقول خلاف ذلك، وبأنها على الراجح ستصب في الاتجاه الثقيل على صدر التحكم، ولهذا كان من نصيب جاليتنا الحرمان، ولسان حال التحكم يقول:مرحبا بأموالكم وتحويلاتكم، وليس عندنا استعداد لقبول أصواتكم حتى نتأكد من تغير جلدكم ونواياكم. - ماذا تعني بلاغات أم الوزارات التي تستهدف الحزب الذي يقود التجربة الحكومية؟ ألا تؤكد أننا على الأقل أمام حكومتين، حكومة يساهم الشعب في اختيارها ولها سلطة محدودة وهامش لا تتعداه وهي موضوعة رهن المحاسبة، وأخرى هي حكومة خفية في شكل جبل جليدي ضخم يطل برأس اسمه وزارة الداخلية، لا حدود لسلطتها أو على الأقل لا يعرف الشعب تلك الحدود، ولا يملك محاسبتها، بل هي التي تتولى عند الحاجة حسابه وعقابه. - ماذا تعني الحظوة التي يتمتع بها حزب الأصالة والمعاصرة، من جهة الإيجاد والدعم والمساندة والتأييد والرعاية؟ نعم، الخطاب الملكي الأخير جعله كباقي الأحزاب من جهة المسافة بينه وبين الملك، وهذا شيء إيجابي نثمنه، ولكن ماذا عن ما نهبه من الامتيازات قبل الخطاب، والأموال التي لا ندري من أين يحصلها رئيسه على الأقل، وتلميع صورة أمينه العام في الإعلام العمومي دون باقي مسؤولي الجهات وكأنه يقود حكومة مصغرة في الشمال، وماذا عن الدولة العميقة الخفية وجبل الجليد الضخم، هل فعلا يساير ما جاء في الخطاب الملكي من حياد، وأخذ نفس المسافة مع باقي الأحزاب أم تراها غير ملزمة بذلك؟ تلكم يا سادة قصة التخوف المشروع من الانقلاب "الناعم" إن جاز أن يكون في الانقلاب ما هو ناعم، والحال أنه لا يكون إلا خشنا، وانما الاختلاف في درجة الخشونة، وهل يكون ببذلة عسكرية ودماء ومشانق، أم يكون بلباس مدني وشبه عسكري وإزاحة من اختارهم الشعب أوتقليص عددهم وسلطتهم وصلاحياتهم إلى أقصى حد ممكن بالحيل والمكر والخديعة والالتفاف والتفنن في العرقلة والفرملة ومنح صلاحيات في الظاهر بيد وسحبها من طريق آخر باليد الأخرى، وتقديم كل ذلك للناس باسم الديموقراطية وروح العهد الجديد والخصوصية المغربية.. إنه تخوف يستدعي الحذر وليس الفرار والانسحاب واليأس من المواجهة، لا ننسى أننا في دورة حضارية عنوانها: الشعب يريد، وإنما الخريف المزعوم مجرد انكسار في الموجة التي انطلقت، لتستأنف إبحارها نحو الهدف المنشود، هدف العزة والكرامة واسترداد سلطة الشعوب التي سلبت منها لفترات طويلة من تاريخنا، اقرأوا تحولات الشعوب الغربية القريبة منا، فقد انطلقت الثورات وعرفت انكسارات هنا وهناك، ولكنها استأنفت ومضت حتى ملكت زمام أمرها في شكل ملكيات ديموقراطية تكيفت مع رغبات الشعوب أو جمهوريات ، المهم أن الاصلاح انتصر، ومن واجهه انكسر واندحر. ومن الفأل الحسن فشل انقلاب تركيا، وكون المغرب من أوائل من ندد بالانقلاب، ولو كانت الأخرى لاستأسد "الانقلابيون" عندنا، ولكن الله سلم، والعبرة أن الشعب هناك، هو من هب لحماية اختياره ومؤسساته وكان له الظفر والنصر، وكذلك الشعوب إذا آمنت وارتفع منسوب الوعي فيها، لن يغني مكر الانقلابيين شيئا، سواء جاؤوا على دباباتهم وامتطوا طائراتهم ببذلهم العسكرية وأحديتهم الغليظة، أو تسللوا إليه من الغرف الخاصة بالدولة العميقة وأذرعها المنتشرة في الاعلام والاقتصاد والأحزاب والمؤسسات الظاهرة والخفية، فالمهم هو الصمود والإصرار وقوة الأمل والثقة في أهل الخير والصلاح وعدم الالتفات للتشويش والصفير والمكاء والتصدية، والمضي في منهج الاصلاح في ظل الاستقرار، واليقين بأن لا مستقبل للانقلابات، والاجتهاد والفاعلية وحسن التعبئة للتسجيل في اللوائح الانتخابية وكثافة التصويت وحراسة المكاتب واليقظة في العد وإحصاء الأصوات وحسن تمثيل المواطنين وإبداع الحلول في خدمة الوطن وهوية وقيم ومصالح البلاد والعباد