هذا الصباح قررتُ أن أصاحب طفلي إلى حصة التطعيم ، و حيث أن الدولة المغربية قد تكرمت على رعاياها بمجانية التطعيم ، قررتُ أن أصطحب ابني إلى المكان الذي طُعمتُ فيه أنا حينما كنتُ في مثل سنه ! الطريق كالعادة في هذه المدينة يتنفس الدخان أكثر ما يوزع الأوكسيجين على المستعمليه بالقسطاس ، و الوجوه المتبرمة تشي بأشخاص يختفون وراءها ، مستعدون للإنفجار في أية فرصة قريبة ، حتى و إن كان استعمالا لمنبه السيارة ، ضجيج ، تلوث ، وجوه متبرمة ، لا شيء يبعث على التفاؤل على الأقل في الطريق ، و كالعادة ، وجدت القوانين التي تنظم السير من أجل الآخرين ، و ليس من أجلنا نحن ، لتصير الدار السوداء ، التي كانت في يوم ما بيضاء ، غابة تتصارع فيها الوحوش الآدمية الراجلة ، مع الوحوش الآدمية الحديدية ، مع الوحوش الآدمية المستقلة عربات مجرورة ، كلهم يتتصارعون معا في صورة سوريالية ، تتكرر كل صباح ، و من اراد أن يتفاداها ، فما عليه إلا أن يستيقظ ساعة قبل موعد خروجه المعتاد ، حينما يكون الناس في صراع مع المنبه ! طفلي الصغير ، لا يزال يشير إلى كل سيارة بإشارة من سبابته ، كل سيارة تمر ، أو دراجة نارية يناديني باسمي و يشير عليها ، و علي أنا أن أقول له في كل مرة : أوه إنها سيارة ، أنها دراجة نارية ، إنها دراجة هوائية ! فيضحك في كل مرة ، و لكني من إشاراته لا أمل ، أتساءل فقط ، عن موقفه حينما سيبدأ في الكلام ، لا بد أنه ثرثار كأبيه ، و سيملأ الدنيا أسئلة ، و يجب علي من الآن أن ابحث عن إجابة ! الشيء الأكيد عندي الآن أنه لا يعلم الوجهة التي نؤمها ، و إلا ما كان فارق أمه و أتى معي ! بين الفينة و الأخرى ، و كلما اضطررتُ إلى الوقوف في الإشارة الحمراء ، فوجئت بمتسول أو متسولين يهجمان على السيارات ، يستجدون الصدقات ، كالعادة أقفل النوافذ ، و أعلي صوت المذياع ، فمن كثرة ما رفعتُ يدي لهؤلاء ، لأقول لهم الله يسهل كرهتُ في نفسي هذه الحركة ! و الحقيقة أني لا أعطي النقود لمتسولي الإشارات إلا نادرا ، ليس لبخل في نعوذ بالله منه ، و لكن لعدم ثقتي فيهم ! القاعدة عندي أن اصحاب الحاجة الحقيقيون ، لا يسعفهم ماء وجههم على مد الأيدي لطلب الصدقة ، و هؤلاء هم الذين أبحث عنهم و أعطيهم ما تيسر ! بعد نصف ساعة و نيف ، وصلنا إلى مشفى الحي بشارع بوركون ، بعمالة آنفا ، الساعة التاسعة إلا ربعا ، و جمع من النساء برفقة مواليدهن ، يشكلن تجمعا صغيرة ، كتلك التجمعات التي تتشكل إضرابا أمام إحدى الشركات ! رباه إننا لا نعرف للنظام اصطلاحا ، كيف ندخل في عقول هؤلاء أن النظام سيسهل الأمر كله ، و يحيلنا إلى استخدام صحي للمصلحة ! ترجل طفلي من السيارة ، و عبثا حاولت أن أحركه من مكانه ، و لكنه يشير بأصبعه إلى الأرض ، فأدركت أن ثمة شيء يحاول أن يريه لي ، لا بد أنها قطة ! بالفعل ، كانت هناك قطة متسخة الجسد تقتات على بقايا خبزة … ابني مجنون بحب القطط ، و يجب عليك إذا وجد قطة أن تكون ممثلا بارعا حتى تلهيه عنها ! كالعادة استغرق الأمر مني 5 دقائق من أجل أن أقنعه بالدخول إلى المشفى الذي ابتلع جموع الأمهات ، حينما كنتُ أشرح لولدي أن القطة لا يمكنها مرافقتنا … وقفتُ بعيدا شيئا ما عن باقي الأمهات ، و بيتُ النية على الصبر حتى تنتهي كل واحدة منهن من تطعيم أطفالها ، ثم أمر أنا ! و هكذا كان ، في انتظار دورنا ، كان طفلي يشير إلى الصور المعلقة ، و يحملق فيها طويلا ، كشخص فقد شيئا ثم وجده صدفة ! صور كلها عن الامراض و العدوى ، و التحذير ، بعدها هبطنا الدرج إلى ما يشبه قبو تحقيق في مركز شرطة ، يحتوي على كراس خشبية ، و نافذتين علويتين عليهما سياج حديدي فكان المنظر كمكان للتحقيق عند الشرطة ! جاء دورنا أخيرا ، دخلتُ ، و كانت المفاجأة ، أن الممرضة التي ستعطي اللقاح لابني هي نفس الممرضة التي أعطتنيه قبل أكثر من 30 سنة ! عرفتها أول ما رأيتها ، و استرجعتُ تلك الذكريات الأليمة التي كنتُ أقضيها هنا في هذا المشفى كل مرة كان يتوجب علي أن أخوض هذه التجربة ! عرفتها و لم تعرفني ، كانت شابة حينما كنتُ إحدى ضحاياها ، فأكلت الأيام شبابها ، و أصبحت عجوزا ! مرور الأيام كفيل بتليين الحديد فما بالك اللحم و العظم ! بقيتُ أحملق فيها كثيرا ، حتى انتبهت للالتهام عيوني فسألتي قائلة بوجه متبرم : لماذا تحملق في هكذا ؟ أخرجتني كلماتها الحادة من ذكرياتي فقلت : هاه ، كلا لا شيء ، الظاهر أنك كنت أول من أعطاني التلقيح في حياتي ، و إني أذكرك جيدا ! لم يتغير شيء في قسمات وجهها ، فردت ببرود ! أنا لا أذكرك ! و لكن هيا لا تضع وقتي هكذا ، ما الذي تنتظره ؟ هيا ، اقلع سروال ابنك ، و لا تضع وقتي ! تمتمت مخاطبا نفسي : تفو باقا هي هي ! ما تبدلت فيها حتا زفتة ! تبارك الله على السي مصطفى ، اليوم غادي تتشوط ! سألته في حدة و كأنما سمعت شيئا مما قلت : آش قلتي ؟ لا والو ألالا ، غير و كان نسيت الدفتر الصحي ديالو ! هادشي فاش فالحين ! واش يسحابليكم غير آجيو و ديرو الدراري ! راه المسؤولية هادي ! ماشي غير ولد ! ماشي موشكيل ، يالاه جيب الدري و حطو هنا ! أياه ألالا عندك الحق ، الموشكيل فيا أنا اللي جايبو ، و ما أنا آش لاحني لهادشي ، كون صيفت ليك مو ! مو ؟ هاهوما لعيالات معمرين الدنيا ! فيناهوما لعيالات ديال شحال هادي ! وا الدنيا تمسخت لا رجالا لا عيالات ! لم أدر لم تحنق هذه الممرضة على العالم هكذا ! هل هو الزمن ؟ لا بد أنها لم تتزوج ، أو لم ترزق بأطفال ! بحال والو تكون عاكرة ! و اعترتني ضحكة خفية حاولت سترها قدر الإمكان ، فتبسمت و قلت : واش غادي تديري غير الصبر ألالا ، دابا واش نحيدليه السروال ؟ سربي سربي راه عندي مازال الخدمة ! نوعتُ سروال ابني الذي خمن ماذا سيحدث و بدأ في البكاء ، فقالت بصوت مرتفع أخافه أكثر : هاي هاي هاي لفشوش كيف داير ، مازال تا ما قصنا فيك و بارك تبكي ! مازال ما جرنا ليك والو ! ألالا ، راه باقي دري صغير كايخاف ! صغير على فم السبع ، حنا قدو ككنا غير كانتجاراو فالزنقة ! أخرجت اللقاح من الثلاجة ، و فتحته ، و بدون سابق إنذار ، و لا تمهيد نفسي للطفل ، غرزت الإبرة الأولى في فخذه الأيمن ، و كان طفلي من الأطفال الذين يصبرون حين الألم ، و إذا بكى ، فاعلم أن الألم لم يكن محتملا ! بعدها تناولت اللقاح الثاني و غرزته في فخذه الأيسر ، و هنا بكى طفلي ، و هوى بيده على يدها ، حتى تألمت ، فقالت له : ولايني راك ما ساهلش ! بحال باك واقيلا ! ياك كلتي ما بقيتيش عاقلا عليا ! أياه ما بقيتش عاقلا و لاكين باينا فيك ! الموهيم دابا وقتاش نجيبو ؟ ملي يدير خمس سنين جيبو ! ألبستُ ابني ، و مسحت دموعه ، و قبلته و همستُ في أذنه بالألمانية : لا تقلق يا حبيبي ، لن آتي بك بعد اليوم إلى هذا المكان ! يكفيك الم اليوم ! في مجرة موازية و عند طبيب الأطفال : تدخل السيدة باولا برفقة طفلتها هايدي ذات الخمس سنوات ، فيدور بينهما الحوار التالي : انظري يا ماما ، لقد غير الدكتور إيستيفان شكل العيادة ، هناك رسومات زائدة على الجدران نعم ! و لكن يا هايدي ، لا أدري لم تحبين هذا الطبيب بالذات ! إنه لطيف يا ماما ، و يعاملني بحب ، بالإضافة أنه جميل ! أوه ، أيتها المشاغبة ! تأتي السكرتيرة إلى غرفة الإنتظار و تخاطب الأم بابتسامة احترام سيدة باولا ، أرجو أن تمديني ببطاقة التأمين أرجوك ، و سبب الزيارة ! أوه نعم تفضلي ! في الحقيقة نحن هنا من أجل اللقاح ! طبعا طبعا ، تفضلا معي ! هذه العيادة أشبه بمكان للأحلام ! حولها صاحبها إلى قطعة من السحب و الأزهار و الألوان ، حتى يشعر الأطفال الزبائن ، براحة نفسية قبل مقابلته ، حتى و إن كانت مقابلته في حد ذاتها قطعة أحلام حلوة حلاوة الشوكولا المعتقة ! فتحت السيدة باولا الباب ، و ما لبثت هايدي أن جرت باتجاه الطبيب و عانقته ، فاستقبلها بحملها ، بابتسامة حب كبيرة ! هايدي ! ماذا تفعلين ! مهلا سيدة باولا ، اتركيها تعبر عن مشاعرها ، ها كيف حالك يا هايدي ؟ الحمد لله ، أنا بخير ، تعلم لماذا أتينا اليوم يا دكتور ؟ هممم دعيني أخمن ! صحتك جيدة ، لا بد أنه اللقاح ! نعم هو ذاك ، و لكن لي شرط صغير ، أن لا أشعر بالألم ! لا عليك ، لن تشعري إلا بوخزة صغيرة ، ثم بعدها ينتهي كل شيء ، هيا اكشفي لي عن فخذيك ! كشفت هايدي عن فخذيها ، فقال الدكتور استيفان : سأعد لثلاثة ، ثم أعطيك أول حقنة ، اتفقنا ؟ هيا : واحد ، اثنان … أي دكتور ، قالت هايدي ضاحكة ، هذا غش ، أنت لم تكمل حد الرقم ثلاثة ! ال استيفان ضاحكا : نعم هذا هو الس أيتها اللطيفة ! و الآن هيا إلى الحقنة الثانية ! هل ستخدعني مرة أخرى ؟ كلا هذه المرة لن أعد إلى الرقم اثنان فقط ، هيا : واحد … ضحكت هايدي و قالت : هذا ليس عدلا ، عددت إلى الرقم واحد فقط ! ضحك الدكتور إيستيفان ، و طبع قبلة على يد هايدي الصغيرة و قال : حسن ، ها قد تم كل شيئ ، كيف حال الدراسة أيتها الأميرة ؟ بخير ، أنا من الأوائل ! جيد جدا ، و هكذا أريدك دائما ! حيا ، خذي مني هذه ، و لنضرب موعدا في لقاء قادم أخرج من جيبه قطعة شوكولا ، و ناولها الصغيرة ، شكرته و عانقته ، ثم أخذت يد أمها جرتها إليها للذهاب ، شكرت السيدة باولا الدكتور ، و ودعته ، ثم خرجا ، لتجد السكرتيرة قد قامت بكل شيء ، ناولتها بطاقة التأمين ، ثم خرجتا ، كخارج للتو من حلم جميل ! الفرق بيننا و بينهم ، أن بلادنا تحتوي على أطباء أطفال ، و بلادهم تحتوي على أطفال أطباء ! الفرق جملة مقلوبة ، و الحق أن مجرتنا نحن لا يمكن أن تلتقي بمجرتهم ، إلا التقاء في نقطة اسمها : الأخلاق طيب الله مساءكم !