نستأنف في هذه الحلقة الثالثة تسليط الضوء على عناصر من الوعي المزيف الذي انتشر في أوساط أعضاء حزب العدالة والتنمية، بعد أن توقفنا في الحلقة الثانية على أوهام نتجت عن الزيف المتعلق بتضخم شعار صناديق الاقتراع، وعلى أوهام نتجت عن تزيف الوعي بخصوص نفس التحدي في الحلقة الأولى. الحلقة الثالثة: تزيف أخلاقيات وقواعد تدبير الرأي عرف الجدل الدائر في أوساط البيجيديين على شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الاخبارية وصفحات بعض الجرائد انحرافات كبيرة. فهو من جهة نقل العجز عن تفعيل المؤسسات الحزبية في معالجة التطورات السياسية إلى الفضاء العمومي. ومن جهة ثانيا، انحرف ذلك الجدل إلى خطابات أصابت صورة الحزب بجروحا كبيرة. ومن جهة ثالثة، أبان ذلك الجدل عن هشاشة كبيرة في الاخلاقيات الحزبية والسياسية المتعلقة بتدبير الخلافات الداخلية. وأعطى ذلك الجدل، ووثيرته اليومية الكبيرة، الانطباع بأن الحزب يعيش حالة من الصراع الداخلي والانقسام، وساهمت منابر إعلامية معروفة بتربصها بالحسب في صبغ تلك الديناميكية من الجدل والنقاش بصبغة الصراع على كعكة المناصب، وكون حظوظ النفس والبحث عن الغنيمة هي محركها الأساسي، مساهمة بذلك في ضرب صورة الحسب التي كانت دائما إحدى مكتسباته السياسية الكبرى لذى الرأي العام، وهي أن حزب العدالة والتنمية ينفرد بميزات سياسية فقدتها أغلب الأحزاب، وهي ميزة النضالية وخدمة الصالح العام. ويمكن القول إن كل الجهود التي بذلها خصوم الحزب طيلة عقدين من الزمن تقريبا في تشويه صورة الحزب وتقديمه على أنه مثل جميع الأحزاب في الاتجار بالسياسة وبأصوات الناخبين لتحقيق مكاسب شخصية مرتبطة بالمناصب وما يجنى منها من أموال ومن حماية للمصالح الشخصية، قد لا نبالغ إن قلنا إن الانحرافات التي عرفها الجدل بين البيجيديين قوى تلك الجهود وسرع وثيرة تكريس تلك الصورة السلبية عن الحزب بشكل غير مسبوق. لقد مست الانحرافات التي عرفها الجدل بين أعضاء حزب المصباح بمصداقية الحزب وصورته ليس فقط لدى قاعدة عريضة من المواطنين، بل في صفوف الحزب وقواعده من الأعضاء والمتعاطفين. حيث ظهر هؤلاء المتجادلون، والمتبادلون لتهم تصل حد التخوين، في صورة لما تعرفه بعض الأحزاب من الصراعات الداخلية حول المناصب. وليس مستغربا أن ينتشر تخوف كبير في أوساط أعضاء الحزب ومتعاطفين حول مستقبل حزبهم في ظل قرب مؤتمره. وهذا المنحدر الأخلاقي والسياسي الذي دخله ذلك الجدل، كان نتيجة مستوى من زيف الوعي خطير، تناولنا عددا من صوره وعناصره في الحلقات السابقة، وسنتناوله في هذه الحلقة في أمرين أساسيين. الأمر الأول يتعلق بعدم استحضار او سوء تقدير عواقب تعميم نقاش يتسم بخصوصية تنظيمية وسياسية حساسة، مكان حسمه هو مؤسسات الحزب، في فضاءات النقاشات العمومية. فالنقاش على الشبكات الاجتماعية وفي وسائل الإعلام، يفتح المجال لتدخل فاعلين منهم من ليس بهدف المساهمة فيه وإثراءه بل لتوظيفه واستغلاله لتحقيق مكاسب خاصة، منها إلحاق الأذى بالحزب. وازدادت فرص سوء توظيف ذلك الجدل بسبب الخطاب الاتهامي والتشكيكي الذي اعتمد. ومعلوم أن اللجوء إلى الاعلام والشبكات الاجتماعية لحسم الخلافات الداخلية تكون له آثار مدمرة على المنظمات والهيئات، خاصة على مستوى تماسك قواعدها وشعبيتها، إن لم يكن على مستوى تماسكها التنظيمي. ومن أكبر مظاهر العمى الذي نتج عن زيف الوعي الحزبي و السياسي في التعامل مع ذلك الجدل، اعتبار نشر الغسيل وتبادل الاتهامات والمس بصورة الحزب مكسبا ديموقراطيا! ولا عبرة في هذا الصدد بنعت ذلك الجدل من طرف أكاديميين وإعلاميين ب"الصحي"، فهؤلاء لهم منطلقات أخرى تختلف عن المنطلقات التي ينبغي أن تحكم مناضلي الحزب وقياداته بالخصوص. بل إن هؤلاء لن يكشفوا أبدا عن التناقضات والفساد الذي تعرفه الهيئات التي هم أعضاء فيها، سواء كانت علمية أكاديمية أو إعلامية، احتراما لمبدأ واجب التحفظ وتجنيب تلك الهيئات الاضرار بها! وعكس ما يعتقده بعض قيادات الحزب وأعضاؤه فإن معايير صحة الهيئات والمنظمات والأحزاب تكون في مدى انتشار وجودة النقاش الداخلي فيها وليس بمدى تجرؤ أعضائها على النقل السلبي لذلك النقاش والجدل إلى ساحة الاعلام والشبكات الاجتماعية. لأن النقاش في هذه الفضاءات العامة الأخيرة تحكمه قواعد واعتبارات فوق ضبط تلك الأحزاب والمنظمات التي إنما تعتبر موضوعا للاستهلاك فيها. وانتعاش النشاط والجدل في تلك الفضاءات لا علاقة له بجودة صحة تلك المنظمات والهيئات، إن لم يكن العكس تماما، إلا في الحالات التي تنجح تلك الأحزاب والمنظمات في تأطيره وتوجيهه لصالحها. ومعلوم أن كثيرا من الهيئات والأحزاب إنما لجأ قياديوها وأعضاؤها إلى الاعلام والشبكات الاجتماعية للضغط على هيئاتهم، ولخلق نوع من التوازن عجزوا عن إنشائه، أو حرموا منه داخليا. لكن النتائج كانت نهاية علاقة هؤلاء بهيئاتهم أو نهاية تلك الهيئات. إن التلبيس الذي يقع في هذا الموضوع هو عدم التمييز بين النقاشات التي تسعى الأحزاب إلى جعلها عمومية، ومنها النقد البناء لتلك الأحزاب، وتعد من مكاسبها وقوتها، وبين النقاشات التي تنقل إلى الفضاء العمومي خطأ من طرف أعضاء في تلك الأحزاب وفي مواضيع وقضايا خلافية أو حتى طالها الفساد، تكون النتيجة في التداول العمومي فيها تخريب صورة تلك الأحزاب، إن لم تتطور الأمور إلى تخريب بنيتها التنظيمية أيضا. الأمر الثاني الذي تم المس به مبدأ أخلاقي عظيم نحته الحزب خلال تجربته في تدبير الاختلاف داخل مؤسساته. وذلك المبدأ هو "الرأي حر والقرار ملزم". وفي ظل الانحراف الذي وقع أصبح الجزء الأول لتلك القاعدة الأخلاقية يأكل الجزء الثاني منها. وتحولت تلك القاعدة الأخلاقية إلى نقيض ما وضعت من أجله، والذي لم يكن سوى تدبير الاختلاف في الرأي وحريته مع حمايته من الإضرار بالحزب. ورغم أن تلك القاعدة تنظم صناعة القرار داخل الحزب لا تنظيم تداول الرأي خارجه، وتفرض حرية الرأي أثناء بلورة القرارات، فهي في المقابل تفرض الالتزام بتلك القرارات حين يتم الحسم فيها. وتلك القاعدة لا تحتمل أي تفسير يمكن بناء عليه تصدير النقاش في القضايا الخلافية الداخلية إلى الإعلام والفايسبوك. وطيلة مدة تطبيق تلك القاعدة لم يسبق أن انفجر الجدل خارج الحزب حول قضاياه الداخلية أو تمت مباركة ذلك. وهنا لابد من التمييز بين القضايا التنظيمية والسياسية التي تخص عمل وتدبير هيئات الحزب وتختص بمعالجتها، وبين القضايا السياسية والفكرية العامة التي ينبغي الاستمرار في مناقشتها داخل وخارج الحزب على السواء. إن القاعدة الأخلاقية المشار إليها وضعت كآلية لتدبير العلاقة بين بلورة القرار والالتزام به، وليس للتكم في الرأي الذي يعتبر حقا من حقوق الإنسان، أو تبرير التصدير المرضي للنقاش حول تلك القرارات بعد اعتمادها مؤسساتيا أو حصول التباس في تدبيرها لها. وإلا فما قيمة أي قرار إذا كان من حق أي مسؤول أو عضو نسفه أو إفراغه من مضمونه، أو التشويش عليه على الأقل بالنقاش والجدل بدعوة "الرأي حر"؟ فأين "واجب التحفظ"، القاعدة الأخلاقية الكبيرة التي تعتبر مشتركا إنسانيا في كل مجالات العمل؟ بل وأين مبدأي التضامن والالتزام في عضوية الهيئات إذا كان لكل عضو الحق في التنصل من قرارات تلك الهيئات أمام الرأي العام بدل الدفاع عنها حتى وهو مختلف معها، كما يفرض ذلك مبدأ التضامن والالتزام؟ وبعض من رواد الجدل الحالي سبق أن واجه تصرفات وزراء التحكم في تعاملهم مع القرارات الحكومية ومع رئيس الحكومة السابق بواجب التحفظ والالتزام الأخلاقي بالمؤسسات! وما سبق يبين أن الانزلاقات التي سجلت خلال الجدل الدائر بين أعضاء حزب المصباح لا يمكن تبريها أبدا بقاعدة "الرأي حر والقرار ملزم"، بل هي ضدها في كثير من القضايا المثارة. إن هشاشة الأخلاقيات التنظيمية والسياسية تفسر جانبا من الانزلاق الذي عرفه النقاش الدائر اليوم. وهذا يكشف بعدا آخر من أبعاد التحديات التي يعيشها الحزب وينبغي له المسارعة إلى معالجتها، والتي ستكون لنا عودة إليها لاحقا. إن خروج "النقاش" من الدائرة الحزبية إلى الفضاء العام ليس في حد ذاته خطيرا حين يتعلق بالاختلاف حول الاختيارات الاديلوجية والسياسية العامة التي تهم الرأي العام أيضا، بل يكون في خدمة ذلك الحزب في كثير من القضايا. و الذي وجدنا أنفسنا أمامه ليس نقاشا، ولا اختلافا في الرأي، بل كشف أسرار في قراءة كيف تم تدبير ملفات، والانتصار لرويات ضد أخرى، وتكذيب متبادل لتصريحات مسؤولين في الحزب، واتهامات في النوايا، وغير ذلك مما تمت الاشارة إليه، فهل نحن أمام "الرأي حر"؟ وهل هناك حرية حقيقية بدون مسؤولية؟ إن الحديث عن "الحق في الحقيقة" الذي يشهره بعض الشباب في وجه أية محاولة لعقلنة النقاش، تتحول إلى "دهن" ييسر التزييف، وإلا فالحق في الحقيقة، إذا جاز أن يطال أسرار الهيئات والأشخاص أمام الرأي العام، وأن يكون مطلبا عموميا، فلا ينبغي أن يكون وليد اليوم، بل ينبغي أن يمارس مند عقود خلت، لا أن يتم اكتشافه مؤخرا فقط. أما مجال المطالبة بذلك الحق فداخل تلك الهيئات وليس خارجها. إن الخطاب المشحون بالعاطفة المجيشة الذي احتضن ذلك الجدل المريض، والذي تمت الاستعانة فيه حتى بالخطابات الساخرة، لا علاقة لها بالمطلق بتبادل الرأي. لأن الرأي بعيد كل البعد عن الاتهام وعن المضامين الماسة باللآخر، إذ الرأي فكرة وحجة. إن عدم انعقاد هيئات، أو عدم تداولها في أمر، أو تجاوزها من طرف مسؤول، أو عدم حسمها في قضية، أو حسمها فيها بغير قناعة شخص أو أشخاص، أمور لا تبرر أبدا اللجوء إلى الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، بل تعتبر أرضية صلبة للنضال الداخلي لفرض الاصلاح و الديمقراطية والشفافية، ولا يمكن بالمطلق إدخال الاعلام والشبكات الاجتماعية ضمن آليات ذلك النضال الداخلي، لأنها آلية لا يمكن التحكم فيها وتوجيهها لتحقيق مقاصد النضال الداخلي، لاعتبارات أشرنا إليها سابقا، منها تدخل فاعلين آخرين تكون لهم مقاصد إضعاف الحزب. بل إن تصدير الجدل حول الشأن الداخلي للحزب إلى تلك الفضاءات قد يعصف بالتنظيم من حيث يراد إصلاحه لما تمت الاشارة إليه. والرسائل التي التقطها الرأي العام حول الخلاف السياسي في تدبير انتقال التكليف بتشكيل الحكومة من الأستاذ ابن كيران إلى الدكتور العثماني، وحول الاختلاف حول تدبير الدكتور العثماني لذلك التكليف، رسائل سيئة أضرت بصورة الحزب ورصيد المعنوي، وقدمت خدمة جليلة لكل خصوم حزب المصباح السياسيين الذين يسعون، بأشكال ديمقراطية أو سلطوية، إلى إضعافه. إن الدروس التي ينبغي استخلاصها مما وقع تدور حول ضرورة النضال الداخلي وتقويته، وضرورة عقلنة النقاشات والجدل، وضرورة الوعي بدور الاعلام السلبي في تدمير القواعد الشعبية للأحزاب، وتدمير تماسكها الداخلي العضوي منه والتنظيمي. فهل يعتبر قادة الحزب ومناضلوه مما وقع؟