كان المرحوم عبد الله بها يحكي نكتة من بين أخرى لها دلالة بليغة تتجاوز ما تحدثه من ضحك لدى المستمعين، شأنه في ذلك شأن رفيق دربه عبد الإله ابن كيران، تقول النكتة إن شخصا كان يقصد العديد من المطاعم للأكل، وكلما دخل مطعما تتعدد طلباته بأشهى وألذ ما هو موجود، وفي نهاية شبعه يطلب إناء مملوء بالحريرة ثم يبادر لإخراج فأر صغير من جيبه في غفلة من الناس ويضعه وسط الحريرة ثم يبادر بالاحتجاج والتأسف والصراخ حتى يلفت انتباه الناس إليه، فيتدخل رب المطعم ليطلب منه فقط الصمت وعدم الفضح وأن يغادر دون أن يدفع مقابل ما ازدرده، ظلت العملية تتكرر مرة تلوى الأخرى إلى أن دخل صاحبنا يوما أحد المطاعم، ففعل فعلته المعهودة فأكل حد التخمة ثم طلب إناء الحريرة، فكانت صدمته أن أجابه نادل المقهى بأنهم لا يقدمون الحريرة في الأصل، فما كان منه إلا أن أخرج الفأر من جيبه متسائلا: وأين سأضع أنا هذا الفأر؟ نعم يا سادة لقد ظل حزب العدالة والتنمية يرفض توفير الإناء والحريرة معا للسلطوية، وظلت السلطوية دائما محرجة ومفضوحة لكون الفأر لم يجد فضاء للغطس، وظل الجميع يشاهد الفأر متأرجحا عاريا بشعا في يد صاحبه مهما تعددت أنواعه ولبوسه، وكانت الفرجة والضحك والتناقضات دائما في مربع السلطوية، إلى أن تم القفز على كل الشروط فأصبح الضحك والفراجة في مربع أصحاب المطعم ونادله النفساني الجديد. إلى حدود البلاغ الأول للأمانة العامة بعد القرار الصادم والقاضي بإبعاد ابن كيران عن مواصلة الإصلاحات المسنودة شعبيا، كنا نعتقد أن البيجيدي مازال يقدم الحريرة فقط لأهله ولعموم الديمقراطيين والمساكين من الناس، لكنه اختار في ليلة حزينة مهينة أن يقدمها لمن دأب على وضع الفأر فيها، ويا ليتهم وضعوا في الحريرة ذبابة أو ناموسة فقط حتى يسهل إزالتها فيما بعد وربما شرب الحريرة لأن المصلحة ستكون راجحة والمفاسد أقل يا أهل الترجيح، لكن حجم الفأر وضخامة جثته سيؤدي حتما إلى فساد الحريرة، ورغم ذلك ما يزال عند العدالة والتنمية خيار وفرصة هرق الحريرة بما فيها، فمهما كانت توقعات الخسائر فإنها لن تكون أكثر من ضرر فقدان الإناء ككل أو تصدعه. إن أولى المؤشرات والتسخينات تفيد لمن لديه بصر فقط حتى دون بصيرة، أن مخطط 8 أكتوبر للانقلاب على نتائج 7 أكتوبر ماض في التفعيل والتنزيل، وأنه وبعد السطو على رئاسة مجلس النواب وقبله مجلس المستشارين ها هو السطو يتم اليوم على حكومة، لا أغلبية للإرادة الشعبية فيها، ولن يحكمها الدكتور العثماني لوحده كما يخوله الدستور ذلك، بل لن يحكمها بالمرة، فالأغلبية الفعلية شكلت قبل الحكومة وليس هناك قانون ولا مشروع قانون سيمر دون إرادتها وإذنها هي ومن يوظفها، في مؤسسات اختلت فيها التوازن الديمقراطي وأصبحت تعبر عن إرادات أخرى غير الإرادة الشعبية ولا حتى نصفها. فما كاد البيجيديون والرأي العام يبتلعون قرصنة رئاسة مجلس النواب، حتى أعفي ابن كيران ودخل ما تبقى من الاتحاد الاشتراكي بالقوة غير شعبية للحكومة، وياليته اكتفى بذلك، بل مر مباشرة إلى الدعوة صراحة لتغيير وإيقاف السياسات العمومية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي في إشارة واضحة إلى إصلاحات وتوجهات الخمس سنوات الماضية، ويا للصدف فهو ذات المطلب الذي عبر عنه عزيز أخنوش في أول جلسة مع ابن كيران، حيث طالب بالابتعاد عن كلام الدعم المباشر للفقراء وبالتالي الابتعاد عن استكمال إصلاح صندوق المقاصة وموضوع المحروقات، بمعنى حماية لوبي المالي المغتني من فقر الشعب والمتستر بالسياسية، أما عدول لشكر عن عدم الاستوزار شخصيا "فراه هو ماشي إدريس إلا شكل الحكومة شخص غير بنكيران وماكانش وزير فيها". لا أدري ما الذي تغير وما الذي حل بالأبصار حتى عمت عن أن الإرادة الشعبية بهدلت وأهينت برفض منطق من صدرته الانتخابات، وأنها فقدت الأغلبية داخل الحكومة وخارجها، وأنه لا مشروع ولا قانون بعمق إصلاحي سيمر إلا بإذن السلطوية وعطفها وأن الإرادة الشعبية أصبحت تحت رحمة إرادة النكوص والردة، من يقنعهم أن الإرادة وممثليها تم حشرهم في الزاوية وأن حزب العدالة والتنمية سيتحول إلى ديكور يؤثث به المشهد لا أقل ولا أكثر، وأن المقصود والمطلوب ليس رأس ابن كيران فقط بل حزبه وانتقال ديمقراطي يراوح مكانه والمؤسسات وفي النهاية العودة ليس إلى ما قبل 2011 بل إلى ما قبل 1999. إن حزب العدالة والتنمية على وشك فقدان الحكومة التي لا أعتقد أنها قد تتجاوز السنة أو السنتين بالنظر للتناقضات التي لن تتعايش داخلها وللفخاخ التي وضعت فيها، وبالنظر أيضا لشراهة المتربصين بالأمل والديمقراطية والإصلاح وما بقي من الربيع، لأن ابتزازهم ومناوراتهم واستخفافهم لا حدود له. وإن كان من خيارات يمكنها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن حزب العدالة والتنمية مطالب اليوم بحوار وطني عميق وجدي على أجندة الانتقال الديمقراطي، والذي قد تكون مخرجاته أخذ مسافة كافية عن الحكومة الحالية، والتأسيس لنموذج جديد يقوي الأداة الحزبية ويبعدها عن مخاطر أمثال هذه الحكومات، إنه النداء الأخير قبل الإيقاع ومن أجل الإقلاع ضحوا بالحكومة حتى لا يذهب الحزب أيضا.