ليلة السبت الماضي كانت فريدة من نوعها بالنسبة لي، صحفي علماني في ضيافة حزب إسلامي، وليلة السبت التي لها طقوسها الخاصة عندنا نحن معشر الحداثيين، سأقضيها رفقة الزميل رضوان الرمضاني في ضيافة من يطلق عليهم «الجيش الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية». كان علينا أن نحصل على مخزوننا الكافي من النيكوتين في بوابة مقر الحزب قبل أن نبدأ جلسة نقاش لا نعرف متى ستنتهي، ولذلك أفرطنا قليلا في التدخين، وقبيل الساعة العاشرة ليلا طلب منا مضيفونا أن نلتحق بالقاعة «باش نبداو النشاط»، ولأن الرمضاني ذو بديهة متقدة أجاب ساخرا « وأي نشاط هذا ، ما نعرفه هو أن النشاط ليلة السبت يكون في مكان آخر وليس في مقر حزب إسلامي».. ضحك الجميع وحان وقت الجد. لكن شباب العدالة والتنمية كان لديهم رأي آخر، يجب أن نتقاسم وجبة العشاء أو ما يشبه ذلك، شربنا الحريرة وأكلنا حبات ثمر وخبر قمح جيد. وبدا لي وزير الإتصال مصطفى الخلفي سخيا في توزيع كؤوس الماء المعدني على ضيوفه، لكن إخوانه كانوا بخلاء في وجبة اللحم المفروم ، ومن حسن حظى أني لا أستمتع عادة بمذاقها، إنها تعطيني الإنطباع بأنها تعذيب ثالث للحيوان ، فبعد الذبح أولا والتقطيع ثانيا، يأتي الطحن مرة ثالثة، أرى في ذلك أقصى درجات التمثيل بالجثة. ومع ذلك، أشكر الإخوان في شبيبة حزب عبد الإله ابن كيران، لقد سهلوا علينا الإنخراط في رمضان بيسر وليونة، كانت وجبة الحريرة والتمر، وأنا لا أحب اللحم المفروم، أشبه ما تكون بتربص إعدادي تحضيرا للصيام. سأل مصطفى الخلفي عن توفيق بوعشرين الذي كان مبرمجا أن يحضر معنا النقاش حول موضوع « الحرية المسؤولة للصحافة والإعلام ركيزة التطور الديمقراطي». وقد بدا من تأخره عن الحضور أنه انسحب من النقاش، أو لنقل وفق ما يفرضه واجب الأمانة، وما قالوا للخلفي «إنه اعتذر عن الحضور في آخر لحظة لسبب طارئ». وتذكرت للحظة أيام الحركة الطلابية، واستعدت تجمعات شبيبة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حوالي ثمانون «مقاتلا» في « الجيش الإلكتروني» بدؤوا يرفعون شعاراتهم الخاصة بحماسة وتناغم، هتفوا للنصر الموعود، وتغنوا بلقائهم في جنة الخلد، كانوا يؤمنون فعلا بأنهم يخوضون معركة الحياة من أجل انتصار في الآخرة، هم لم يبدعوا شيئا من عندهم ، رئيسهم عبد الإله ابن كيران نفسه سألهم يوما : « هل تريدون الحكومة أم الجنة؟». وهاهو مسير الجلسة يعطيني الكلمة ليضعني أمام متلق إسلامي لا أعرف كيف سيتقبل تحليل صحفي علماني. لم أشأ الحديث عن مسائل عملية لأن الشيطان وأعماق الإختلافات توجد دائما في التفاصيل، قلت للحضور إني سأستعرض تجربتي المتواضعة في الصحافة وعلاقتها بالسياسة والتحول الديمقراطي بلغة شبه نظرية. لم أهيئ مداخلة مسبقة، ومن حسن حظي أن تذكرت منع جريدة «أنوال» سنة 1996 كانت فكرتي بسيطة: في الوقت الذي كان فيه المغرب يتهيأ لانتقال ديمقراطي عبر دخول تجربة التناوب الأولى التي قادها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ، لم تتردد الدولة في أن تمنع صحيفة «أنوال» فقط لأنها نشرت بيانا يقول أن «ليس في دستور 1996 ما يدعونا لقول نعم»، ثم جاءت بعد ذلك حكاية شق منظمة العمل إلى حزبين، والمغزى في ذلك أن التحول الديمقراطي لا يسير دائما وفق خط تصاعدي، وهو لايقبل بالضرورة أن يكون هناك إعلام مخالف، وبالنتيجة فإن لحظات الإنتقال هي أيضا لحطات التباس، والحسم فيها يكون لميزان القوى بين الذين لديهم مصلحة في الديمقراطية والذين يخافون التغيير. أطنبت قليلا في التنظير، ولم يكن ممكنا أن يتواصل النقاش دون أن تحضر حكاية عبد الإله ابن كيران مع الزميلة بشرى الضو والزميل شبل عبد الإله ، الكثير من المتدخلين انتقدوا الزميلين الصحفيين، لكن عددا مماثلا انتقد أيضا موقف رئيس الحكومة، أحدهم قال إن ابن كيران أميننا العام لكننا لا نعبد الأشخاص وقد أخطأ في ردة فعله. وكمال قال الزميل الرمضاني، كان يمكنه أن يتجاهل السؤال أو أن يتهرب منه، لكنه كرئيس حكومة ليس من حقه قمع صحفي يحمل بطاقة مهنية. وكان مصطفى بابا الكاتب العام السابق لشبيبة «البي جي دي» يلهب الحضور بتدخله، وقد تمنيت لحظة لو أزلت مكبر الصوت من أمامه، هو صاحب صوت جهوري واعتاد على الخطابة بحماس، وشعرت للحظة كما لو أنه محرض كبير على مواجهة ما أسماه ابن كيران ب«الصحافة المعادية»، وفي الواقع كان يلهب المشاعر ويؤجج الحماس، وكما قال لنا مصطفى الخلفي ونحن نتناول الحريرة «كلما ازداد الإحساس بأنهم يستهدفوننا كلما ساعدنا ذلك على تعبئة التنظيم ورص صفوفنا الداخلية». على مدى ساعتين تحدثنا كثيرا وبصراحة ومكاشفة، عاتبنا السياسين الذين يحبون أن يجعلونا علبة رسائلهم، وانتقدنا زملاءنا الذين يريدون أن يصبحوا فاعلين سياسين وينوبوا عن الأحزاب في معاركها، بل ويرغبون أن يكونوا رجال إعلام وأعمال أيضا، ولم أتردد أنا والزميل الرمضاني في أن نتحدث عن تقصيرنا كصحفيين في قواعد المهنية والمبادئ الأخلاقية، لكن قلنا أيضا لا تطلبوا من صحافة المغرب الآن وهنا أكثر من حجمها، نحن نعكس مستوي تطور مجتمعنا وسياسيين دون زيادة أو نقصان، فقط دعونا نمارس مهنتنا بتجرد وحياد مقبول. حين انتهينا في حدود منتصف الليل، وضعنا بعض صور القاء في الفايسبوك، صورة لتناول الحريرة مع مصطفى الخلفي وأخرى لمنصة الندوة، وعلى الفور كانت التعليقات ، «لقد أصبحنا مرايقية» و «بعنا الماتش للبي جي دي» وأننا سنكون «جزءا من حملتهم الإنتخابية» ضحكت كثيرا أنا ورضوان في الطريق ين الرباط والمحمدية، هكذا نحن دائما، سيعتبرك ابن كيران معاديا، وإلياس خصما، وإدريس خائنا، ولن يترد شباط في اعتبارك عميلا ... لكننا في نهاية المطاف لسنا إلا ما نحن عليه ، صحفيون وفقط. أما بالنسبة لحكاية الحريرة والتمر فقد كانت تمرينا جيدا على دخول أجواء رمضان خصوصا وأن الإخواة قد أصروا أيضا على أن يفتتحوا النقاش بآيات بينات من الذكر الحكيم. تقبل الله صيام الجميع، والله يهدينا وصافي.