أقر أن من بين الدروس القليلة التي شدت اهتمامي ونالت إعجابي وتعلق بها ذهني وتأملي، ذلكم الدرس القيم الذي ألقته في حضرة ملك البلاد السيدة عزيزة الهبري (أستاذة القانون في جامعة ريتشموند سابقا) يوم السبت 26 رمضان 1437 (02 يوليوز2016) في موضوع: "آفة الكبر في مظاهرها الحديثة". ولئن أحسنت حين أعلنت عن التعريف اللفظي والإنساني للكبر بأنه إرادة العلو في الأرض وهو ما كان منكراً ومرفوضاً إلا أنه يمنع صاحبه من الاستماع لآيات الله واتباعها، وهي آيات جاءت لتضع الإنسان في موقعه الصحيح في الأرض بحيث يكون متواضعا لله، وكذا التعريف السياسي للتواضع لله تعالى - على ذات الأساس - بأنه عدم الإفساد والحرص على أداء الحقوق، فإنها أفصحت مشكورة أن "المسلمين اليوم على أعتاب نهضة جديدة قد نسرعها أو نؤخرها بخياراتنا، وقد لا تكون بشائر هذه النهضة واضحة للعيان في ظل تصاعد العنف والدمار، ولكن الصحوة قد بدأت، فعرفنا الآن أن مشاكلنا ليست خارجية أو أجنبية فقط، إنها في عقر دارنا وعلينا الاختيار، فهل نعتنق مذهب التكبر والرفض لإنسانية الحضارات الأخرى ؟ أم نعود إلى قيمنا القرآنية الإنسانية ونطبقها في حياتنا فنختار التعارف والتواضع الاستراتيجي، بدلا من الكبر والازدراء الجاهل ؟". وفي باب التواضع والتشبث بموقع الإنسان بموضعه "المؤقت في الأرض"(...) أستحضر سنة 1987 وما تلاها، وأنا موظف يافع وقتها، حين كنت شغوفا بالكتابة الصحفية مشحونا بها إلى حد لا يعدله إلا حرصي "المرضي" على إتقان عملي الإداري تقليدا وتأثرا بمن كنت أخضع لإمرته، إذ كان - شافاه الله - نموذجا نادرا في الكفاءة العالية والتعلق بنسبه الإداري صدقا ومعرفة والتزاما متواصلا، كنت أراسل الأستاذ عبدالكريم غلاب الذي كان مديرا مسؤولا بجريدة (العلم) بمقالات في مواضيع عامة كانت تشغلني وكان اهتمامي بها يسكنني، فكنت – لضعف الوسائل وتواضع الإمكانيات – أكتب بخط اليد بالقلم الجاف الأسود الذي لم أكن أجد عنه بديلا، وكان - حفظه الله - يهتم بما أكتب ويعمل على نشره دون بتر أو إضافة، ولا أحتاج للقول طبعا دون أدنى كِبْر أو استعلاء أي والله، فهو الذي لم يعرف عني ولا عن نسبي أو هويتي شيء، ولم تربطني به أية صلة (حزبية أو غيرها) إلا تلكم الرسالة التي كانت تصله مني من حين لآخر، وهو المعروف بالجمع بين المعرفة بكنه السياسة وبحر الرواية والأدب عموما وشعب العمل الصحفي في تقاطعاته المختلفة المتداخلة، حتى أني أستحضر يوما راسلته بمقال نسيت وضع عنوان له، ففوجئت به منشوراً بالحرف في أسفل الصفحة الأخيرة بعد أن تفضل بإعطائه - كما أذكر - عنوان: "لغتنا التي نسيء إليها"، ولا أكتم أن الإشارة أثرت في تأثيرا لا حد له واعتبرتها تشجيعا أبويا غاليا وتكريما معرفيا من أحد رموز وشيوخ الكتابة الصحفية اللامعة الهادفة، بل أكثر من هذا.. لم ير ما يمنع أو يعيق أن يمنحني صفحة بالتساوي (...) اقتسمتها ذات عدد مع مقال بحثي للأستاذ العالم محمد يسف ضمن "واحة الرأي" التي كانت جريدة العلم تصدرها أسبوعيا كل جمعة، وكان مقالي وقتها بعنوان: "لغة الضاد وأفق ملازمتها للإسلام في إفريقا". وأذكر أيضا – في ما تذكره بعض الكواليس المكتبية – أن وزيرا أولا مضى (وكان المرحوم الدكتور عزالدين العراقي) اتصل بأحد الوزراء الذين كان لهم شأن وكان لهم ثقل في الميزان السياسي والإداري على حد سواء، يسأله عن طبيعة رده على ما جاء في عمود (مع الشعب) بجريدة (العلم)، فرد الوزير المعني – الذي أؤكد من جانبي أنه كان وزيرا مقتدرا – بأنه (المقال) مجرد كلام صحف (هكذا !)، لكن الوزير الأول وقتئذ قاطعه بالقول: "لا، لايتعلق الأمر بمجرد كلام صحف، إنه عبدالكريم غلاب..، ولا شك أن صاحبنا أدرك المعنى وبلغته الرسالة... إنه الجمال في أسمى معانيه المجسَّد في الرجال الأفذاذ الذين غلَّبوا الأفكار وتعاورها، وأعطوا للخلاف دفعا قيميا يعبر عن سمو الشخصية المسؤولة سياسيا ومعرفيا وإداريا، أولائك الذين التفتوا عن التفاهات وعن منطق "من ليس معنا فهو ضدنا بالضرورة"، وفضلوا البقاء والخلود عن طريق تخليد الأفكار وبناء الرجال، فببناء الرجال تبنى الأوطان وتبقى، أولائك الذين استطاعوا بخبرتهم العالية ومعرفتهم الواسعة أن يمزجوا حقيقة بين إشاعة تدبير محكم، وتواضع راق نحو الآخر، وحزم وزجر حين يدعو الواجب ذلك، أولائك الذين قبل أن يرحلوا أدركوا الحقائق بتجردها بعيدا عن الخلفيات العاطفية الضيقة المنطلقة من الانجذاب الحزبي أو الارتكان الفئوي والاحتباس فيه دون القبول بالانفتاح على الآخر وعلى الفضاء العام المحيل على إيجابيات الأطياف وتسامح الاختلاف، أولائك الذين يجعلون المرء يدرك جانبا من صفاء النفس، ومن وحدة الانتماء للوطن الشاسع الرحب.. إنها الحكامة النظيفة الموافقة لمنطق القيم والمنسجمة مع منطوق النصوص الملزمة والموجهة للجميع. إنه لمن العجب ومن الخيانة أن يجعل المسؤول من عواطفه الضيقة معيارا للتدبير، وميزانا مزاجيا للحكامة كأنه السيد في ضيعة خاصة موروثة، بينما الآخرون عبيدا رقا لا يسعهم إلا السمع والطاعة ولا قبل لهم بسند يطمئنون أو يحتكمون إليه. والأعجب أن نشهد بعض المؤسسات المتصلة بالمجتمع، ومنها ما تعد في نظر معظم الناس زائدة دودية ليس إلا، فتراها مرهقة بوجوه بالية وبشيخوخة حَدَّ العجز عن التوافق مع المطلوب منها بوضوح ودقة، فأحرى القدرة على الانسجام مع الأخلاق الواجبة والنصوص المنظمة.. ! وتراها "أقدر" على إهانة الناس وإذلالهم بلا ملل أو ضجر دون أن تقوى على الحركة المفترضة للنهوض بالواجب العيني المقابل للأجر الشهري.. ! إن الدستور الحالي المعتمد ببلادنا ينص صراحة في تصديره أن: "المملكة المغربية وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة."، كما ينص بوضوح في فصله السادس أن: "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له"، ولا مجال بالتالي بأن يوحي أيا كان بأنه "القانون" معتدا بذاته وأنانيته وغروره وسطوته ومرضه، لا مجال إلا بالاحتكام إلى القيم الواضحة التي يدركها الجميع، ولا يقدرها الجميع بكل أسف، حتى وإن وجد فينا الجبان والخجول !). ومع وجود بعض العقول البالية أو الشائخة التي تطبعت على الكبر على الناس والاستعلاء عليهم وحب إذلالهم، فتعمد من حيث تدري وتعي أو لا إلى تعطيل مصالحهم و إلحاق الأذى النفسي بهم، إذ لا تجد نفسها إلا في النَّزاء إلى احتقار الغير، يمكن للبيئة أن تقبل بهم بينها لكن في الإطار الخاص، بمعنى أنه يمكن أن يخضعوا لشذوذهم في نطاق حياتهم الخاصة، لكن لا حق لهم البتة في أن يستهدفونا داخل الفضاء العام والخدمة العمومية، وإلا سيكون "منطقيا" القبول بباقي الخروقات والمساوئ التي باتت تُضَيق على سعة الناس وتشكل تهديدا مستمرا لهم في فضاءات أخرى نظيرة ومماثلة، كملاعب كرة القدم أثناء المباريات وإثرها، والجامعات وأجوائها ومحيطاتها وغيرها.. إن الانحراف يظل انحرافا خارجا عن القانون وعن الضوابط، و حكمه ارتداد على الأخلاق وعلى مجموع القيم التي يفترض أن تجتمع عليها الأمة، ولا يجوز القول بحال أن هذا انحراف حسن وذاك انحراف ممقوت، خصوصا حين ينسب لمن يفترضُ معرفته ووعيه بمهامه وبما هو منوط به مؤسسيا، وهذا خطير ! إن أكبر إساءة للوطن تكمن في تعطيل قوانينه أو الاستخفاف بها أو محاولة ذلك، ولا شك أن معيار تقدم الشعوب وتطور الأمم يتمثل أساسا في الحرص كل الحرص - ومن الجميع كل من موقعه - على احترام القانون وتفعيله وتقديره. ثم إن تقدير الرجال والنساء الذين أعطوا من معارفهم وخبراتهم، والذين يمثلون النموذج المثالي في الحكامة الجيدة والأثر الطيب بحسن الاعتبار وبالتكريم يظل من آكد الواجبات إن على المؤسسات أو جمعيات المجتمع المدني أو الأشخاص إبرازاً للأمثلة الجديرة بأن تشاع وتقتدى.