سئلت صديقي الذي مرت عدة أسابيع على لقائي الأخير معه ،عن قراءته للوضع السياسي الراهن في ظل ما تسميه البلاغة اليومية بالبلوكاج ،فبادرني بجواب مقتصد في العبارة : إنه زمن اللايقين . صديقي الذي يفضل أن يقدم نفسه بإختصار كمناضل ديمقراطي بالرغم من انتمائه الحزبي ،يميل بحكم تكوينه النظري والسياسي للتركيب والكثافة،لذلك طلبت منه شيئا من التوضيح والتدقيق . فاسترسل أمامي مبسطا أفكاره المرتبة : اللايقين هو إنتصار التدبير التقديري للزمن السياسي ،حيث لاشيء يجب أن يحدث كما يقتضي المنطق وكما نعتقد في انتظاراتنا الساذجة أو كما يفترض أن يحدث في ظل حياة ديمقراطية سليمة . اللايقين هو مشروع القتل البطيء للسياسة ،حيث الانتخابات لا تفضي إلى ما يجب أن تفضي إليه ،فهي ليست لحظة تأسيسية لها ما بعدها ،ولا هي محطة منتجة للرهانات وللمعنى، ولا هي حدث مهيكل للزمن السياسي . اللايقين هو رمي الإرادة الشعبية إلى دائرة الهشاشة القصوى ،و تكريس الاقتناع بأن التقدم في النصوص لا يعني تحصين اي مكاسب "نهائية" في معركة البناء الديمقراطي . اللايقين هو ترسيخ "العدمية" كرياضة وطنية وشعبية يقترحها سادة المرحلة الجديدة /القديمة ، أمام المواطنين ، بديلا عن نقيضها الناشىء: الثقة في السياسة . اللايقين هو الشك الدائم في إمكانية صعود الشرعية من أسفل ،وهو الاقتناع الحاسم بقصور المجتمع و بحاجته الماسة لوصاية الدولة . اللايقين هو الإنعكاس الطبيعي لايديولوجيا التفوق التاريخي للدولة على المجتمع ،وللتقنقراط على المنتخبين، وللإدارة على المواطن ،وللترتيبات المسبقة على المفاجآت غير المنتظرة . اللايقين هو الإصرار على أن التقدم ليس أفقا ضروريا للمسار السياسي ،وأن التراكم الهش ليس كافيا للقطع مع أساليب الماضي . اللايقين هو تعليق الأمل في مستقبل سياسي افضل ،وتعميم الخوف من العودة القريبة لما قبل خطابات الانتقال ، حتى يصبح سقف الطموح الجماعي واطئا و يصبح بالتبعية الخيار السيء خيارا حكيما ،فقط لأنه يجنبنا الأسوأ . اللايقين هو اسبقية السياسي على القانوني ، و أولوية الأعراف المرعية على الميثاق الدستوري ،وهيمنة القواعد غير المكتوبة على ثقافة الفاعلين . اللايقين هو ترسيم الانتظارية بديلا عن الإرادوية، و قاعدة القرب من الدولة بديلا عن المنهجية الديمقراطية . اللايقين هو الذهاب رأسا إلى حالة سياسية قاحلة ،بلا أفق واضح للمرحلة ولا مشروع وطني مهيكل ولا "وعد" كبير ملهم ،بعد انكسار خطاب التأويل الديمقراطي للدستور،و قبله أفول مقولات الإنتقال و ما جاورها من عناوين استطاعت على الأقل أن تصلح كشعارات للتعبئة. قاطعت صديقي ، مبديا استغرابي من نبرة التشاؤم الحاد التي تطبع تحليله وهو المعروف دائما بالاعتدال والحكمة، لكنه فاجأني قائلا بأنه على العكس لم يحدث أن كان متفائلا بمستقبل الديمقراطية ببلادنا كما هو اليوم ! لم أستوعب جوابه ،وقبل أن أتركه يفسر موقفه ، مازحته قائلا : فعلا ،إنه زمن اللايقين ! ابتسم صديقي ،تم واصل حديثه الشيق …