تحولت الأمنيات والرغبات في عصرنا الحاضر إلى مرض خطير إن لم نقل فتاك يصعب علاجه، لكونها أمنيات ورغبات موهومة عملت وسائل الإعلام بمختلف تجلياتها على ترسيخها في عقليات جميع الفئات العمرية بمجتمعنا، فتجد الطفل يحلم ويتمنى أن تكون له قوة خارقة يحقق بها كل ما يتمناه ويريده مثل ما يرى ذلك في الرسوم المتحركة التي سكنت لا وعيه، وتجد الشابة والشاب يتمنىيان أن يصبحا مثل الفنانين والممثلين والمغنين والرياضيين المشهورين لا لشيء إلا لما يرياه من مختلف مظاهر الترف الدنيوي التي يعيشها هؤلاء. إن لكل الحق في الحلم والتمني، لكن أن يعمل الإعلام على خلق رغبات ومتمنيات موهومة أو لنقل مستحيلة تتجاوز العقل والمنطق تارة والواقع تارة أخرى، وغير مقيدة بالقيم الدينية التي ربى بها الإسلام أهله، فهذا هو المرفوض والذي ينبغي مجابهته بشتى الوسائل الممكنة. إن التطور الهائل الحاصل اليوم في مجال الإعلام والتكنولوجيا عمل على غسل دماغ الشباب، وغير نمط تفكيرهم، وعمل على مسخ القيم ومسحها من عقلهم، ومن ثم تغيرت متمنياتهم ورغباتهم، وأصبحت قيمة اليوم الآخر - وما فيه من الحساب والجزاء وما يتبع ذلك من النعيم المقيم، أو العذاب الأليم- لا تعمل عملها، ومن ثم ينتج لدى هؤلاء الشباب فكر وسلوك لا يغادر نظر العين إلى القدم. لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيلة عملية إجرائية نستطيع بواسطتها أن نكتشف حجم النعم التي أنعم الله بها علينا ، وهي النظر إلى من هو أسفل منا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»[صحيح مسلم (14/ 213)] إننا إذا نظرنا إلى من هو أسفل منا في المال والخلق علمنا قدر هاتين النعمتين علينا، وتنبهنا إلى أن لا نحتقر وننتقص ونعيب ما فضلنا الله به على من هو أسفل منا، قال الطبرى رحمه الله: "هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى من فوقه فى الخير طالت نفسه باللحاق به، واستقصر حاله التى هو عليها، واجتهد فى الزيادة. وإذا نظر فى دنياه إلى من هو دونه تبين نعم الله عليه، فألزم نفسه الشكر. هذا معنى كلامه وإذا لم يفعل ما حض عليه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الأمر بالعكس فأعجب بعمله، وكسل عن الزيادة من الخير، ومد عينيه إلى الدنيا، وحرص على الازدياد منها وازدراء نعم الله عليه ولم يؤد حقها." ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي عن هذا الحديث: "وقد أرشد صلّى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم. فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه. فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول: الحمد لله الذي أنعم عليَّ وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم، فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه"[بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ط الرشد (ص: 54)]. جميل أن يتمنى الإنسان ما على أخيه من النعم، لكن يتمنى جنسها لا عينها لأنه لا يعلم ما تحت تلك النعم من النقم، وهذا ما نبهنا إليه القرآن الكريم في قصة قارون لما خرج على قومه في زينته، فقال ضعاف القلوب الذين تخطف أبصارهم المظاهر الدنيوية {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص:79] وقارن هنا عز وجل بين أناس آخرين قلوبهم متعلقة بالآخرة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]. لكن لما أخذ الله قارون وخسف به الأرض تغير كلام أصحاب الدنيا وترجح كلام أهل العلم والآخرة، قال تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81، 82].
فالمتمنّون مكانه ندموا، وأمّا الراضون بقسمته- سبحانه- فقد سلموا في العاجل إلى أن تظهر سعادتهم في الآجل.