لمْ تُلاقِ الحفلةُ التي أحيَاها الفنّان كاظم الساهر، ضِمْنَ فعاليات مهرجان فاس للموسيقى الرّوحية 2014، النجاحَ والإشْعاعَ الذي كان مُنتَظراً منْها. وبَدا كاظِم السّاهر بعيداً عن ذلِك الألَقِ المعْهُودِ عليْه، وخيّبَ بذلكَ تطلّعاتِ الجمْهُور الذي جاوَزَ أحدَ عشَر ألفَ مُتفرِّجٍ. وَتُعَدّ هذه الحفْلة هي الثالِثَة من نوعِها التي يُحيِيها الفنّان ضمْن هذا المهرجان بعْد نُسختي 2005، و2011. فإذا كانتْ سهرةُ 2005 قد شكلتْ محطّةً فاصِلَةً في المشوارِ الفنِّي للفنَانِ، من خلال اقتصارِه في الغناءِ، ولمُدّةِ ساعتيْنِ، على القصائِدِ، التي أُضِيفَتْ إليها قصِيدَتَا الشَّاعر الصوفي الحلاّج؛ "عجبت منك ومني"، و" رأيت ربي"، وهُو ما أعْطَى للحفْلِ جَوّاً رُوحِياً انْسَجَمَ مع الإطار العامّ الذي تصْدُر عنْهُ رؤية الهيأَة المنَظّمة للمهرجان، فإنّ سهْرة 2014 قدْ خرجَت، وبشَكْلٍ جليّ عن هذا الإطارِ. ويتَمَظْهَرُ ذلكَ في عدّة تجلّياتٍ. بِدايةً، لا بُدّ من الوُقوفِ على الارتجالِيّة التي سَيَّجَت هذا الحَفْلَ وأحَاطتْ بِه، انطلاقاً منْ أداءِ كاظم، ثمَّ أداءِ الفرقة المغربية التي رافَقَتْهُ؛ حيثُ بَدَا واضِحاً غيابُ الانسِجَام بيْن الطّرفينِ، وذلكَ من خِلالِ إعادةِ بعْضِ مَداخِل الأغَانِي لأكثَر مِنْ مرّة، وعدَمِ قُدرة الفِرقَةِ على العزف الجيِّد لأغانٍ أُخرى. وقدْ انْتَبَهَ الحاضِرونَ إلى البوْنِ الشّاسِع بين أداءِ كاظم مع الفرقة العراقية، التي اعتادَت عليه، وأدائِه مع الفرقة المَغربيّة التي باتَتْ تُرافِقُه، في سهراتِه بالمَغرب، مُنْذُ 2010، وهي بذلك حدِيثةُ العهْد بمُرافقَة السّاهر. ثانِياً، هُروبُ كاظم من غِناءِ بعض الأغانِي التي يَعتَبِرُها صَعْبَةً في العَزْف، أو في الأداءِ، أو اعتذارُه، أحياناً، بِغيابِ نوتاتِ أغانٍ كثيرَةٍ. على أنّ كاظم لا يَعلَمُ أنّ الجُمهورَ، وبِخاصّة مُحِبّيه ومُعْجَبيه، يَنْتظِرُونَ هذه الحفلات، ويُؤَدُّونَ واجِبَها، لسَمَاعِ أغانٍ وَفْقَ أذواقهم المُختلِفة، وليْس بَحسبِ "منهاج" يقترِحُه الفنانُ، ويُكَرِّرُه في كلّ مناسبَةٍ، ثُمّ ينْسُبُه إلى الجمْهُور. ثُمّ إنَّ هناكَ مسْألةً أخْرى، لا تقِلُّ أهمية عن سابِقاتِها، وهي المُتعلّقَةُ بثنائيَةِ أغنية صعبة/ أغنية سهلة. فهَلْ يُعقَلُ أنْ يصعَد فنّان، بحَجْم القيصر، كما لَقّبَه بذلك نزار قباني، إلى خشبة المسرح، ويأخُذَ في الاعتِذارِ عن أداءِ مجموعةٍ كبيرةٍ من الأغانِي التي يَرى بأنّها مُعقّدةٌ، أوْ حزينَةٌ، أو أنّ بعْضَها طوِيلٌ وأنّ بعضَهَا الآخر يتَطَلّبُ مَجْهُوداً كبيراً منْهُ؟ وهَلْ سَبَق لفنّانٍ آخرَ منْ حَجْمِهِ أنْ رَدّدَ هذا الكلاَمَ على مَسَامِعِ جُمهورِهِ حتّى سَئِمُوا؟ إنّ الأَمْرَ لا يَرْتَبِطُ بأيٍّ منْ هذه الأسبَابِ، إنّها مسْألةُ استِعْدادٍ لاَ أقلَّ ولاَ أكثَرَ. فإذا كانَ هذا الفنّانُ يحْظَى بِحُبّ وتقديرِ الجُمهورِ، فإنّ كاظم بالمُقابِل مُلزَمٌ بمُبادَلةِ هذا التقديرِ والاحترَامِ بِحِسٍّ منَ المسؤوليّة، وألاَّ يكْتفِيَ بالتّصريحاتِ الإعْلاميّة التي باتَ الجُمهورُ يحْفَظُهَا دونَ أن تُنْقَلَ إلى الفِعْل. في حفلة فاس 2014، وفي سابِقةٍ فريدةٍ منْ نَوعِها، قرّرَ كاظم الساهر أن يُفاجِئَ الجُمهورَ الحاضِرَ بأغنيةٍ جديدةٍ، لمْ يَمُرّ على نُزولِها على الأنترنيت سِوى يوْمٍ واحِدٍ بعنوان: "أحلى النساء". فَرِح الجَميعُ لذلكَ، لكنَّ فرحَتَهُم لمْ تلبَثْ أنْ انقَلَبَتْ موْقِفاً ساخِراً، حيْثُ عمَد كاظِم إلى التّوقُف عنْ غنائِها، بعْدَمَا نَسِي كلماتِها، ولَحنَها، وخَشِيَ أنْ يُكْشَفَ أمْرُهُ لدَى الحاضِرينَ، وقالَ: "هذه الأغنية صعبة... صعبة جدا... صعبة عليّ حتى أنا... وأنا متردد في غنائها..." وقامَ بإلغائِهَا.... لَمْ يكُنْ ينْقُصُ كاظِم في هذا الحفْلِ سوى الاستعداد المُسْبَق والجَيّد، والتّدَرّب رُفقَة الفِرقة المغربيّة على عزْفِ وأداءِ الأغاني المُقترَحة، ولِمَا لا تطعِيمِ هذه الفرقة بالعازِفين العراقِيّينَ الذي رافقُوا السّاهرَ لأكثَرَ من خمِسٍ وعشرِين سنَةً، وعدَم الاقتصارِ على رجل القانون "حسن فالح"، ورجل الكورال "محمود شاكر". ومن جهة أخرى، على الفنان أن ينسى أن نجاح الحفل مرتبط بالعَدَدِ الإجمالِي للحاضِرينَ، لأن هذه المعادلة لَيْست دائِماً ذات معْنَى. خُصوصاً وأنَّ اسْم الفنان، فقط، يكْفِي لبِناءِ حفْلٍ لَهُ جماهيريتُه الكبيرة، حتّى قبْلَ أن يبْدأَ (حفل موازين 2014 مثَلاً).
بيْن فاس 2005، وفاس 2014، مسَافةُ تسْعِ سنوَاتٍ كاملةٍ. لكِنّهَا كفيلَةٌ بأنْ تكْشِفَ عنْ كلّ المُتغيّراتِ والنّواقِصِ التي بدأَتْ تُشِينُ مَسيرةَ كاظِم، بدْءاً بغنائِه منْ ألحانِ غيرِهِ، وذلِكَ موضُوعٌ يمْكنُ أنْ يُشكِّلُ مقالاً آخرَ، وانتِهاءً، الآن، بتدَنّي مُستوَى الحُضورِ على خشبَةِ المَسْرحِ. وعلى الفنّانِ أنْ يقِفَ وقْفَةَ تأمُّلٍ وينْظرَ إلى الأمَام، وأن يقابِلَ مودّة واحترامَ الجُمهورِ بمسْؤوليةٍ أكْبرَ. كَما أنَّ على كاظم أن يتخلّى عنْ ذلكَ الابتِذالِ الذي أصْبحَ يَسِمُ وُقوفَه على المَسارحِ، وأنْ يشْعُرَ بأنّ هناكَ جُمهوراً لا يقْبلُ أيّ شيْءٍ يُقَدّمُ إليْهِ.