لم تستطع سوريا تحمل هبوب رياح «الربيع العربي» ، وثبت أن الحكم البعثي في هذا البلد يمتلك قدرا كبيرا من العبث والهمجية المنقطعة النظير٬ والاستعداد اللامتناهي للمضي قدما في القتل والتعذيب والترويع٬ حتى يصل هذا النظام الفاسد إلى آخر المدى. لا نزعم أن رياح التغيير ببلدان الربيع العربي الأخرى قد مرت بسلام، فلم تنته دولة إلى أفضل مما كانت عليه في الغالب، ولكن الدول الأخرى على الأقل قد حافظت على الإطار العام للدولة وأجهزتها السيادية، ولا تزال تحاول أن تخرج من مشكلاتها مسلحة بنسمات الحرية والأمل في التحول الديمقراطي. بالطبع٬ الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية حديثة-ببلدان الربيع العربي- مملوء بالأشواك والعوائق٬ في ظل صراعات داخلية وتوازنات إقليمية ودولية معقدة. غير أنه يبقى خيارا استراتيجيا٬ يتطلب تضافر جهود كل القوى والحساسيات السياسية والمجتمعية٬ باختلاف أطيافها وتوجهاتها الفكرية والسياسية. من زاوية التحليل الجيوسياسي٬ شكلت الحالة السورية الاستثناء الدموي بكل المقاييس لموجات الربيع العربي٬ في سياق "لعبة التوازنات الاستراتيجية" التي تطغى على النظام الدولي في هذه المرحلة التاريخية الحساسة. فلا تزال منطقة الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا٬ من المسارح الكبرى للتجاذبات والمزايدات الإقليمية والدولية٬ وكأننا دخلنا فترة جديدة من الحرب الباردة لكن بأدوات وأسلحة جديدة. بالتأكيد٬ أن الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة العربية لا تهتم بمصالح الشعوب ولا تكترث لمنظومة ومبادئ حقوق الإنسان٬ الشيء الوحيد الذي تناضل من أجله هو مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية فقط. فقد كشف الربيع العربي زيف التبجح الغربي بالقيم والمبادئ الديمقراطية٬ هذا الغرب المنافق الذي ظل يحاضر علينا حول الديمقراطية وقيمها ومبادئها الكونية، ويتغنى بالديمقراطية الإسرائيلية ، وقف عاجزا أو بتعبير أدق متظاهرا بالعجز٬ أمام هذه المجازر اليومية التي يرتكبها نظام بشار الأسد ضد شعبه وضد وطنه. لقد تلطخ جبين المنتظم الدولي بالعار والخزي عندما تخلى عن الشعب السوري وتقاعس عن نجدته٬ لا ننكر أن بعض القوى الإقليمية والدولية والعربية٬ تكافح ليل نهار من أجل رفع الظلم والمعاناة عن الشعب السوري٬ لكن جهودها تبقى متواضعة في ظل دعم بعض الجهات الدولية والأطراف الإقليمية لنظام الأسد وسلطة حزب البعث٬ مقابل تقاعس المجتمع الدولي ومؤسساته الرسمية عن التحرك الحازم نصرة للشعب السوري٬ وإنقاذا للدولة السورية التي أصبحت تتداعى يوما بعض يوم. سقطت إذن٬ قيم الليبرالية التي تدعي التمسك بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان٬ لتبقى مسألة واحدة راسخة في الأذهان٬ هي أن الغرب لا يريد لنا التحرر من ربقة الاستبداد والظلم والذل والهوان٬ بل يريدنا أتباعا وعبيدا لمصالحه وطموحاته في الهيمنة والاستحواذ.
والحقيقة ٬ أن الأزمة السورية تشكل بدون منازع الجرح الأكثر إيلاماً وإيذاء للإنسانية في وقتنا الراهن، فنزيف الدم٬ ومعاناة اللاجئين٬ وتخريب الممتلكات٬ والقتل الممنهج للإنسان السوري والثقافة السورية٬ كلها أحداث تحظى بتغطية واسعة من وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون٬ وصولاً لعرض أشلاء وصور مؤلمة وأخرى لا تحتمل لمن يتضور جوعاً. وكأنه كتب على السوريين الموت إما قصفاً بالصواريخ والبراميل المتفجرة، أو بالسلاح الكيماوي، أو بالتجويع٬ أو المرض٬ أو التعذيب٬ بل قد تلاحقهم آلة الموت لتقتلهم مع اللبنانيين والأردنيين والأتراك عن طريق هجمات إرهابية غادرة. في تقديري٬ أن الإحاطة بواقع الأزمة السورية وأبعادها الإقليمية والدولية٬ تقتضي قراءة المعطيات السياسية والاستراتيجية المستجدة على الساحة الدولية بخصوص المكانة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط. حيث أن المحلل السياسي والاستراتيجي يلحظ بما لا يدع مجالا للشك٬ تغيرا كبيرا في القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط في ميزان القوى العالمي، الذي يخضع لمنطق المصالح الاقتصادية و الاستراتيجية البعيدة الأمد ٬ وكل حديث عن القيم والمبادئ الديمقراطية والحقوقية يبدو ضربا من الجنون. إن بوصلة الاهتمام الغربي تتجه منذ التسعينات٬ إلى منطقة جنوب شرق آسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا ، نتيجة ظهور مواقع تحتوي على فرص اقتصادية واستثمارية ذات قيمة و مردودية أكبر كالنفط والغاز وغيرها. متغيرات جديدة فرضت إعادة النظر في المقاربة الاستراتيجية التي يعتمدها الغرب في هندسة الخريطة الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط. بيد أن هذه المتغيرات٬ لا تعني تخلي الغرب عن الشرق الأوسط الغني بموارده الطبيعية وموقعه الاستراتيجي. يتعلق الأمر إذن٬ بمحاولة إعادة الهيكلية الاستراتيجية للمنطقة ولكن وفق معطيات وشروط اللحظة الراهنة واستحقاقاتها، وهي عملية كلاسيكية في السياسة الدولية، تعمل على تحيين المصالح والسياسات. وبلغة العلوم السياسية، يتعلق الأمر بإعادة تطويع الجغرافيا وتشكيلها بطريقة أكثر جدوى وقابلية لخدمة المصالح الحيوية والاقتصادية للدول المهيمنة على مسرح الأحداث العالمية. و هذا ما حدث في الحقبة الاستعمارية٬ حيث تقاسمت الدول الاستعمارية مناطق النفوذ والهيمنة في إفريقيا واسيا وبعض مناطق أوروبا الخاضعة للإدارة العثمانية. وفي كل هذه المرات٬ كان الأمر يحصل نتيجة تطورات الحركة الرأسمالية العالمية وحاجتها لعنصري الموارد والأسواق، إضافة لظهور متغيرات في سلم القوى العالمي وهيكلية القوى المتنافسة على اقتسام خيرات وثروات الشعوب.
اليوم٬ تبدو الأزمة السورية حلبة للصراع الدولي٬ و بوابة لتشكيل فسيفساء شرق أوسط جديد لم تتضح معالمه حتى الآن. والتصور الأقرب للوقائع الجيوإستراتيجية٬ أننا أمام هندسة استراتيجية أميركية جديدة٬ تقوم على إعادة صياغة وتشكيل الشرق الأوسط بطريقة جديدة. حيث تعمل على محاولة استيعاب المتغيرات السياسية والمجتمعية الجديدة٬عبر تجنب دعم مسيرة تحرر الشعوب من هيمنة الأنظمة الاستبدادية و تيسير طريق التحول الديمقراطي. وبالمقابل٬ تلعب دور المتفرج والمشاهد لسيرورة الأحداث المؤلمة والتي تعصف بعشرات الآلاف بين قتيل وجريح ومشرد و لاجئ. إن القوى الغربية تعتبر دماء السوريين٬ بمثابة قربان يجنبها غضب الآلهة على غرار الشعوب الوثنية٬ في طقوس وثنية تنسف فلسفة وفكر الحداثة والتنوير. وفي إطار هذه المقاربة الجيوسياسية الغربية الجديدة - بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية- لمنطقة الشرق الأوسط٬ يجري تطبيق سياسة ترك المنطقة تتشكل من جديد، و فق استراتيجية "الفوضى الخلاقة"، والتي دعا إليها عدد من المفكرين السياسيين الأمريكيين٬ و وجدت صداها إبان إدارة جورج بوش الإبن. قد تكون من آليات هذه الاستراتيجية الجديدة، توظيف الهويات الدينية والطائفية والعرقية ،أو حتى ظهور كيانات سياسية على أسس عرقية وطائفية و جهوية، على الشاكلة العراقية أو اللبنانية٬ مما يضمن استدامة التغلغل الغربي في جغرافيا الشرق الأوسط. وكأن قدر هذه الشعوب٬ يتمثل في استدامة الاستبداد والفساد إلى ما لانهاية.
هناك من يعتقد أن المجتمع الدولي يواجه تحدي الحفاظ على وحدة الدولة السورية٬ ومنع قيام دويلات طائفية٬ وتحدي إعادة الإعمار وبناء ما دمرته الحرب٬ وتقديم المساعدات الإنسانية للملايين من اللاجئين، وهذا أمر فيه نظر. صحيح٬ أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية تحمل هذه المشاعر النبيلة٬ غير أن أطرافا أخرى تملك اليد الطولى في توجيه مجريات الأحداث وحسم الصراع٬ لها أجندة مغايرة تتجاوز منطق مصلحة الشعب السوري والإنسان السوري. لا نبالغ٬ إذا قلنا أن الأزمة السورية٬ تشكل انقلابا خطيرا على كل القيم والمبادئ الإنسانية٬ والتي تغنى بها الغرب ومناصروه في المنطقة العربية لوقت طويل. وكما يقال عند الامتحان يعز المرء أو يهان. بالتأكيد٬ أهان المجتمع الدولي كل القيم والمبادئ النبيلة٬ وانتصر لسطوة المصالح الاقتصادية والسياسية الرخيصة الملوثة بدماء الأبرياء والضعفاء.