تاريخيا، تعتبر لحظة بداية التعبير عن القوانين الطبيعية بالعلاقات الرياضية في زمان كيبلر و غاليلي و نيوتن، الثورة العلمية الحاسمة التي أوصلت العالم الى التطور المعرفي و التكنولوجي الذي تستفيد منه كل الأمم اليوم. فمفاهيم الرياضيات و نظرياتها هي رهن اشارة كل العلوم لاستثمارها في صياغة قوانينها مما يجعلها تسرع من تطورها و تختصر معلوماتها و تجعلها سهلة للتنظير و للمراجعة الابستمولوجية. من هنا، وفي المدرسة، لا يخفى على أحد دور تعليم الرياضيات في تنمية الفرد و المجتمع، و لأهمية ذلك نشير الى بعض الكفايات الهامة المرتبطة بتدريس الرياضيات. فهذه المادة التعليمية: *تنمي قدرة التلميذ على التجريد و على الاستدلال باعتبارهما يشكلان أساس التفكير العلمي، وفي هذا الصدد يؤكد بياجيه على"أن النشاط الرياضياتي يشكل حلقة هامة في تطور البنيات الذهنية للمتعلم" اللازمة لاستيعاب وتصورالمفاهيم العلمية. *تتيح للمتعلم اكتساب معرفة رياضية ضرورية لفهم و استيعاب محتويات باقي المواد و خاصة العلمية، ثم أنها تكسبه معارف و مهارات أساسية في حياته اليومية او المهنية وأخص هنا مهن الهندسة التي تعتبر بحق الكفايات القابلة للاستثمار في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. انطلاقا من هذه المكانة الحضارية للرياضيات نتساءل، هل سياستنا التعليمية تستحضر ذلك في مناهجها؟ ماذا عن واقع تدريس المادة؟ اذا قمنا باستطلاع رأي بسيط يقيس مواقف التلاميذ والمجتمع بصفة عامة تجاه الرياضيات، سوف نجد بأن نسبة عالية تكره المادة و تحمل عنها تمثلا اجتماعيا خاطئا (كأن الرياضيات صعبة، لا يفهمها إلا الأذكياء، مجردة لا علاقة لها بالواقع،..). تعليميا، لن أتحدث عن التقارير الوطنية أو الدولية التي كشفت عن فشل استراتيجية الوزارة في تدريس الرياضيات، ولكن سأنطلق من الواقع التعليمي الذي أحتك به، وفي دراسة احصائية بسيطة قمت بها مع بعض الزملاء على مدى عشر سنوات شملت جمع بيانات نقط الامتحان الجهوي للرياضيات لتلاميذ الثالثة اعدادي للمؤسسات التي نقوم بتصحيح أوراقها فكانت النتائج كم يلي: 14% فقط من التلاميذ حصلوا على المعدل 56% من التلاميذ حصلوا على نقطة أقل من 05\20 ألا يعتبر هذا فشلا دراسيا و خصوصا في مادة تعتبر محور التقدم العلمي؟ أين نحن من المخطط المنبثق من روح الميثاق و الذي كان يرمي الى تحقيق نسبة 60% من الناجحين المتوجهين الى شعبة العلوم؟ الان نتساءل عن الأسباب و العوامل التي أدت الى هذا الوضع الخطير، و لمن المسؤولية؟ حقيقة الأسباب متعددة منها ما هو عام ومنها ما هو مرتبط بمنهاج الرياضيات بشكل خاص،إلا أنني سأقف على ثلاثة قرارات وزارية أثرت بشكل كبير على مرد ودية تدريس الرياضيات: 1 - قضية تقليص الحصص المخصصة لمادة الرياضيات: كانت الحصص المخصصة للرياضيات بمنهاج الاعدادي هي 6ساعات أسبوعيا لكل مستوى، أما في زمان الاصلاح فقد تقلصت الحصص الى 5ساعات للأولى و 4ساعات للثانية و 5ساعات للثالثة، وكان المبرر آنذاك مقولة "المهم في التدريس الكيف وليس الكم" في حين أن السبب الحقيقي كان اقتصاديا، اذ أن عمل 5 أساتذة سيقوم به فقط 4 أساتذة، فكانت نتيجة القرار:اضافة قسم لكل أستاذ و إنقاص حوالي 140 ساعة رياضيات لكل تلميذ بالسلك الاعدادي! ألن يؤثر هذا على مرد ودية تلاميذ جيل الاصلاح؟ 2- قرار الإدماج المباشر و قضية التكليف معروف تأثيراته السلبية لدى كل أطر التعليم، و قد تحدثنا عن ذلك في كثير من المواقف. 3-قضية التراجع عن حق أطر الاعدادي بإمكانية الولوج لمركز تكوين المفتشين. من بين الايجابيات التي جاء بها الاصلاح و هي مسألة فتح باب الولوج لمركز تكوين المفتشين لجميع أطر التدريس، إلا أن مجيء الوزير محمد الوفا ألغى فئة مدرسي الاعدادي من هذا الأفق المهني، و هنا أتساءل و بصفة خاصة، ما الذي يمتاز به أستاذ رياضيات الثانوي التأهيلي عن نظيره بالثانوي الاعدادي لكي نعطي للأول أحقية الولوج للمركز و الاشراف على السلكين الثانوي و الاعدادي و نمنع الثاني من الاشراف و من حقه الطبيعي في تطوير مشروعه التربوي و المهني. إن خبرة مدرس الإعدادي هي أغنى و أعقد من نظيراتها بالتأهيلي بحكم أنه يتعامل مع متعلم ذا خصوصية حرجة تتمثل في انتقاله من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة و ما يصاحب ذلك من تغيرات تمتد حتى الجانب الفكري و هو ما يستوجب رعاية خاصة من الناحية التربوية أو التعليمية.
أيضا من الناحية الديداكتيكية، فمنهاج الرياضيات بالإعدادي له خصوصيات تجعله من أعقد المناهج، حيث أنه ينتقل بالتلميذ من النمط الحسابي الى النمط الجبري المجرد، ومن المنهج الاستقرائي الى المنهج الفرضي الاستنباطي، وهذه أمور لم يختبرها مدرس التأهيلي، و بالتالي تؤهل مدرس الاعدادي لتكون له رؤية تقويمية اصلاحية دقيقة لتدريس الرياضيات بالإعدادي.