قد تقرأ هذه العبارة قراءة سريعة دون تفكيك لمضامينها فتغدو محط استهتار واستهزاء لذوي الانطباع السريع باللغة في إغفال لحمولاتها الدلالية و التداولية، ولهذا سأشرح العبارة باستحضار ما أمكنني من التحيينات المواكبة للذات الإنسانية في أبعادها و آثارها النفسية، حتى تنطبق للتداول داخل مجتمعنا. أما المعطل و الفنان فقد اخترتهما لما لهما من تقاطعات تسعفنا اللغة في إبرازها بشكل جلي، ذلك أنه عندما نتحدث عن الفنان كقيمة رمزية نجده ذلك الذي ينحث أو يرسم أو يرقص أو يغني أو يطرب أو يضحك أو يمثل دورا ما، وقد نجده يلحن سيمفونية أو أغنية أو مقطوعة أو نشيدا ثوريا أو وطنيا، إلى غير ذلك من التمثيلات التي تدخل في خانة الفنان، وهو باعتبار الصيغة الصرف - تركيبية يأتي على وزن (الفعًال)وهي إحدى صيغ المبالغة في الممارسة الفنية و الإبداعية، إلا أنه من خلال تقسيم كل نمط فني معين قد نجد من يستحق لقب الفنان؛ لما يتركه في أذهان و أعين وآذان متتبعيه من الأثر العميق (مع اختلاف المتتبعين من حيث درجات التلقي) كما قد نجد من يوهم نفسه بلقب الفنان فقط لأنه استغل ظرفية ما في محيط ما واستفاد منها - كما يفعل رجل السياسة - فاتخذ لنفسه مكانة اجتماعية محترمة في غفلة من الجمهور حتى أصبح يصدق نفسه أكثر من غيره، ذلك أن الوهم لم يفارقه منذ أن بدأ يتوهم، والنتيجة أنه كائن وهمي بامتياز يعيش في مواقع و فضاءات معينة وكلما حاول الخروج بفنه إلى واقع الأمر كان النشاز رديفه و حليفه، فلا تجده إلا كائنا يحاول الاستعطاف بفنه وهو الفاقد لأصوله وشروطه، فلا هو أشبه بمن يحترم نفسه ولا هو ممن يريد تنمية فنية لمجتمعه، وتراه مستمر في هلوسته أمام ألسن و أقلام النقاد، (مع احترام الألوان و الأذواق الفنية). أما الفنان الحقيقي بالمفهوم النبيل للكلمة فتراه يمتعك - دون استئذان - في إبداعه ودون تكليف، فقط لأنه ينقل ما يبدعه بصدق وبساطة، فتراه إذ ترى فيه الصدق يعبر عن فحوى خطابه، ويحترم جمهوره كما يرضي أذواقهم وفي ذلك إرضاء لذوقه، ومحصلة ذلك تفاعل تام بين أهم أطراف الخطاب الذي لا يكتمل دونها (المخاطِب و المخاطَب) وحتى يتسنى لنا الحديث قليلا عن المعطل بصفته سبب ملازم لنتيجة -حسب العبارة- نقول: إنما الغاية من هذه المعادلة التحليل وفق بساطة المقارنة ومنطقية المقاربة، حتى يتبين المغزى من إخراج العبارة الذي هو الإنتاجية بالمفهوم التوليدي للغة، والتواصلية بالمفهومين البنيوي و الوظيفي، والإقناع بالمفهوم الحجاجي للغة . إن "المعطل" بالنظر إلى البنية الصرف-تركيبية للكلمة صيغة تدل على المفعولية، حيث وقع عليه فعل فاعل؛ عطله شخص ما فتعطل حيث يراد به المطاوعة في اللغة، لكنها وقعت من إنسان على إنسان ذلك أن "المعطل" وليس "العاطل" صفة قد تسمو إلى القيمة الراقية لصفة "الفنان" وقد تدنو إلى الصنف الذي ينسب لنفسه سمة الفنان وهو غير ذلك، كيف ذلك ؟ لعل المعطل عندما ينتفض في وجه الكلمة انتفاضة الصبر و الصمود والتحدي ونكران الذات و الصدق في التعاطي مع واقعه المعاش في رفض لكل المساومات والنفاقات السياسوية التي تجعل منه إنسانا معطلا وتناديه عاطلا، تلك أولى خطوات السمو نحو الفن، ذلك أن بإمكانه رسم العديد من اللوحات تجسد ما يعيشه بصدق وبساطة، حيث يرسم من خلال واقعه السواد بريشة اليأس مؤرخا بذلك لشكواه وأحزانه ومعاناته جراء ما قاساه من عقاب من حرموه حقه في الشغل، ولأنه ثار في وجه السياسة المرتجلة وقال هي السياسة فاشلة في مجتمع يشجع على الفشل بصمته، ذلك أن السياسة لم تحترم شهادته ولم تحفظ كرامته و ألصقت به صفة لم يكن يتخيلها عندما كان يكد ويجد في مشواره الطويل، لكن المعطل لم يطلق العنان للون الأسود حتى يطغى على لوحته و يتجبر، كما رفض أن يعزف على مقام "الصبا" الحزين في معزوفته، فقد ظل يؤمن بعهد الله الذي لا يخلف وعده لعباده كما أن مقولة "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل " ضلت شعاره ففي الحياة، فتراه يضيف اللون الأبيض لينقص به هيمنة الأسود حتى أصبح اللون رماديا يحيل إلى لون السماء الملبدة بالغيوم في نية الإمطار وبعدها شمس ذهبية بمعاني النصر أصلها أصفر و فروعها ألوان حمراء و خضراء، حيث يمتزج الحب بالطبيعة التي كان الإنسان سيدها يديرها و يحاورها بحب و يزرع فيها ما يرغب تحصيله دونما تقسيم هرمي يفرق بين بني البشر، لعل المعطل ذلك الإنسان الذي لم يرتكن ولم يستسلم لسياسة التهديد و القمع التي تضعف أمام جلده وصبره ويقينه بإحقاق كرامته، رافضا بذلك كل المساومات وكل الأطعمة المسمومة و الملغومة (الاقتراحات و البدائل السياسوية) التي تقصيه و تقصي حقه في الوجود أو تنقص من أحقيته، إنه المعطل الذي لحَن وغنى بكلمتي "لا" و "نعم" في أجمل الألحان، حيث غنى لا للإقصاء، لا" للحكرة"، لا للتهميش، لا لإقبار الحق، نعم للحرية، نعم للكرامة، نعم للتوظيف وضمان العيش الكريم، إلا أن المعطل يعاني أيضا مشكلة قد يعانيها الفنان الحقيقي، حيث يوصل إبداعه لجمهور قد يشفق عليه تارة و كأن الجمهور غير معني بواقع العطالة، وتارة أخرى يكون بعض الجمهور من عشاق الفنون الهزلية الشعبوية التي تتخد من البهرجة سبيلا لتغييبه عن حقيقة الأمر، حيث التنكيت و النفاق و الكذب يخدر الجمهور إلى درجة قد ينسى فيها الجمهور أنه بداخل جل الأسر يوجد المعطل، هذا الأخير الذي يعاني ما يعانيه الفنان الذي لا يذكر بمزاياه إلا بعد وفاته أو عند اقترابها، وعندئذ لا تنفك أن تكون ردة فعل خجولة أمام واقع صادم. ولأن تفرعات الكلام لا تنتهي لكثرتها والمقام لا يسمح لنقاشها سنمر إلى الصنف الثاني و هو المعطل من الدرجة الثانية إذ ان في ظاهره معطل وفي باطنه خادم لمصالح أخرى تهدم و تزعزع، بل و تشتت كلمة المعطلين وتوحيد صفوفهم الذي هو سلاح نصرهم و سبيل إحقاق حقهم، فترى هذا الصنف يريد الحق بظاهره بباطل في نهجه و باطنه، دون مراعاة لحق الإنسان في الحياة و العيش الكريم، خدوم لقوى الفساد منافق لقوى الحق، إنه كالممثل أو الفنان الانتهازي أيضا فيستفيد من حرقة إخوانه كاسبا من ورائها ما يبتغي، كيف لا و هو الذي يحور ويوجه نضالات سلمية إلى وجهات و أماكن أخرى لم يعهدها المعطل المناضل عبر مرور الزمن، إنه ذلك الذي يوجه الصفوف إلى الفشل راسما لهم أحلاما وردية كمن يرسم شلال ماء لمن يجوب صحراء قاحلة و هو عطشان يبتغي ماء، فالويل كل الويل لمن يتخذ من واقع الشرفاء سخرية ومكسبا لا يدوم وإن دام دمر، فيلبس المفاهيم تفسيرات و شروح عكس ما يؤمن به العقلاء، أما و أني ذكرت صنفين من الفنان ومثلهما من المعطل فإن قصدي بذلك لا يعدو أن يكون سوى مقاربة قد تكون مغايرة من حيث المعالجة والمنهجية، وتختلف من حيث بسطها عن الطروحات التي تناولت الموضوع ذلك أني قصدت من وراء العبارة "أنا معطل إذن أنا فنان" قياسا على المقولة الديكارتية - من حيث الشكل لا المضمون- أن المعطل الحقيقي فنان نبيل صادق الوعد في خطابه لا يحرفه ولا يغيره في جوهره، كما الفنان الحقيقي الذي يحترم فنه ويحترمه جمهوره والعكس صحيح؛ أي أن المنافق الذي ينتهز واقع العطالة وينفي مجد الشرفاء وما قدموه من تضحيات في سبيل العيش الكريم و العدالة الاجتماعية فذاك كالذي يظن نفسه يغني ويتبعه الغاوون من العامة، وهم الذين ينتظرون البهرجة التي تخرجهم من واقع لم يفهموه فهما منطقيا، ففضلوا البديل لقربه من الفهم و بساطته من حيث التنزيل ولأنه يتلائم و قدرات البعض، فكيف بقائد يجهل ما يفعله أن يحترم القيادة وهو الجاهل، بل و جماعة من الناس تتبعه في جهله فتؤثر على التائهين، عندئذ سيتمادى في جهله الآن عوده قد اشتد - في اعتقاده - ويجحد بحقيقة لو علمها تابعوه لما كانت له القيادة و الريادة في زمن الرويبداء.
إنها قراءة مستوحاة من واقع معيش لا أدعي بها الإساءة بقدر ما أريد بداية البداية، وتصريح بانفعال من خلال وساطة القلم و الورقة إلى كل من يفهمني من القراء الذين أقول لهم هذه وجهة تؤمن بالنسبي و ترفض المطلق كما أنها قراءة من بين قراءات أخرى قد تأتي عن طريق النقد أو التعقيب, لعلها تعجل بفجر المعطل الفنان الذي سينجلي يوما ما، وقد يكون قريبا، فما دمت معطلا فأنا فنان والمعطل فنان في كل المعاني السامية و حتى الدانية.