في ذكرى ثورة الملك والشعب، التي تصادف هذه السنة تقاعد جيل من الرواد المخلصين، جاء خطاب صاحب الجلالة مثلجا للصدور الملتهبة بفرط المناداةبالإصلاحات الملحة والعاجلة، حيث أفرد لقطاع التعليموالتكوين الذي أفنينا فيه عنفوان شبابنا، الحيز الأوفر والأهم باعتباره قضية وطنية مركزية تقتضي من الجميع ومن المسؤولينالمباشرين تحديدا، وقفة تأمل عميقة ومراجعة دقيقة، للوقوف على أهم المكتسبات رغم قلتها والعمل على تعزيزها وتطويرها، وتشخيص مكامن الخلللتجاوزها... ففي وقت كان يفترض فيه أن يتمالانكباب على تفعيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي اتفق المغاربة على العديد من ضوابطه، مع استحضار أسباب إعداده واللجنة الوطنية التي أنيطت بها مسؤولية تمحيص ودراسة دعاماته، لتحقيق الأهداف المتوخاة والخروج من دائرة الاختلالات المتواترة،والتي تأتي في مقدمتها إشكاليةضعف تعلم اللغات وعدم مواءمة المناهج والبرامج لمتطلبات سوق الشغل،والقطع مع تلك السياسات العمومية الفاشلة، غير القادرة على تأمين استمرارية البرامج والمخططات الاستراتيجية القطاعية الواعدة بين الحكومات المتعاقبة، نجد حكومة السيد ابن كيران خلافا لسابقتها التي عملت على تسخير إمكاناتها المادية،وما توفر لديها من وسائل لوجستية لوضع مخطط استعجالي يسهم بفعالية في تنفيذ مقتضيات الميثاق،سعت جاهدة إلى الانفصال مع ما سلف في شخص السيد: محمد الوفا وزير التربية الوطنية، مبديةتراجعها عن البرنامج بدعوى عدم نجاعته،وخاصة ما يتعلقمنه بشق بيداغوجيا الإدماج، دون الأخذ بعينالاعتبار ميزانيتهالضخمة أوالتشاور مع الفاعلين المعنيين، وإشراكهم في اتخاذ مثل هذهالقرارات المصيرية التي ترهن مستقبل الأجيال الصاعدة،وانشغلت بتوافه الأمور في جو من اللغط والتوتر والارتباك، مما أخر كثيرا استكمال أوراش الإصلاح، وحال دون الإسراع بتنزيل مضامين الدستور، لاسيماأن ملف منظومتنا التعليمية يكتسي طابعا استعجاليا، بالنظر إلى ما يمثله البعد التربوي من دور حاسم في الحد من الفوارق ودعم التماسك الاجتماعي، وما يجسده منرافعة أساسية لكل تنمية بشرية مرجوة،وبما أن الفصل: 168ينص على إحداث مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، لما يشكله من قوة اقتراحية قادرة على تقديم التصورات والبدائل، وما يميز تركيبته الجامعة بين عنصرين بالغي الأهمية: التمثيلية المجتمعية والتخصص الوظيفي والمهني،بادر جلالة الملك إلى سد الفراغ الحاصل بتعيين السيد: عمر عزيمان رئيسا منتدبا جديدا لهذا المجلس في انتظار بلورة النتائج...أكيد أن هناك الكثير من الفراغات والثقوب في الحكومة المتأسلمة، نتمنى صادقين من العلي القدير أن يلهم رئيسها ذلك النبوغ المغربي الفريدلإيجاد الحلول الملائمة، مع تشكيل النسخة الثانية من حكومته، وأن ينير بصائر أصحاب تلك الأصوات الشاردةوالمحتجة، التي أساءت التقدير وأخطأت انتقاء زمن ارتفاعها،حتى تدرك جيدا أن دستور البلاد المتوافق عليه، لا يمنع الملك من تقييمالعمل الحكوميوانتقاده، وفي ذات الوقت يمنحه كامل الصلاحيات للتدخل والتنبيه متى دعت الضرورة إلى ذلك، فالمتأمل في مشهدنا السياسي لا بد من أن يسجل بالعين المجردةذلك البطء الحكومي الشديد الذي لا يضاهي وتيرته عدا سير سلحفاة ضائعة في البراري، فضلا عنانحراف العلاقة بين مجلسي النواب والحكومة القائمة، وما يتخلل جلساتها من تشنجات تثير السخرية والقلق، ولعل هذه أبرز الدواعي التي أدتإلى اهتبال جلالة الملك فرصة الذكرى الستين لثورة الملك والشعب معلنا تذمره ولافتا الانتباه إلى ما يحدث من زيغ، باعتباره مسؤولا رئيسيا على ضمان حسن سير المؤسسات الدستورية وفق ما هو منصوص عليه في الفصل: 42، وإن كانت معضلة التعليم وحدها تدعو إلى القيامبثورة غاضبة، تنبعث من رمادها حكومة كفاءات وطنية،يعهد إليها بأمر معالجة الاختلالاتالعميقة والنهوض بالشأن التربوي علىمختلف الأصعدة وفي عدة مستويات... جفت الأقلام، بحت الحناجر، وما زال الطريق شاقا ومضنيا من غير أن يلوح في الأفق ما يبشر بالخير، نعت ذوو النيات الحسنة بأبشع الأوصاف وأقدحها، واتهموا بالتشويش وإعاقة العمل الحكومي، صمت الآذان أمامآرائهم، طفت لغة التماسيح والعفاريت وغابت لغة العقلوالمنطق، لتتواصل الخطب الفارغة وخرجات الفرقعات الإعلامية تصب في اتجاه واحد ووحيد هو تسويق الشعور بالمظلومية لاستقطاب المزيد من المريدين، ولا ندري لماذا يفضل العاجزون إسقاط ضعفهم على المختلفين معهم في الرأي من معارضي اختياراتهم اللاشعبية؟ فها قد جاء بيان أعلى سلطة في البلاد واضحا ومباشرا، وما على السيد ابن كيران سوى التقاطإشاراته والتهييء للمرحلة القادمة، لأن الانخراط في عملية البناء ليس في حاجة إلىالأيديالمرتعشة ويستلزم الشجاعة للمواجهة وقوة الإرادة في خوض المعارك الصعبة، الجهر بالحقائق والكشف عن العوائق والمثبطات، ويقتضي أيضا نوعا منالتآزر والتشارك لملامسة قضايا المواطنين وإرساء دعائم قيم الديمقراطية الحقيقية، ونبذ الخلافات المفتعلة والتجاذبات السياسوية، وكل ما من شأنه تخصيب حقول الاستبداد والفساد، ولن يتأتى ذلك إلاباحترام رغبات المواطنين وصون كرامتهم، وجعلهم يشعرون بالانتماء الحقيقي إلى هذا الوطن الكبير. صحيح أن حكومة السيد ابن كيران ليست مسؤولة عما آلت إليه أوضاع منظومتنا التعليمية، التي استمرت في تقهقرها على مدى أكثر من عشرين سنة مضت، لكن الأصح هو أنها بشرت بحكامة قطاع التربية دون أن يقع شيء من ذلك، وشاركت بوعي أو بغيره في تراجعه إما بسب ضعف التجربة، وإما بسبب اندفاع وحماسة السيد وزير التربية الوطنية خريج القلعة الاستقلالية، التي تنكر لفضائلها مقابل الحفاظ على كرسي السلطة، أو بسبب الاثنين معا، ذلك أن ما رفعته من شعارات براقة لمحاربة الفساد والاستبداد، وما وزعته من وعود كاذبة، مع ما حمله الدستور من آمال،عوامل ساعدت في تغليط المواطنين بأن كبرت أحلامهم، واعتقدوا جازمين أن مسلسل البؤس والفقر انتهت حلقاته إلى غير رجعة، وأن قطار الإصلاحات سينطلق لطي المسافات بسرعة فائقة، صوب محطات النماء والازدهار، وأن آلات إنتاج الثروات ستشتغل في جو من الحماسة والحيوية، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق ليصاب الجميع بالإحباط، ولا أدل على ذلك أكثر من أن الدستور ما زال قابعا في الرفوف يعلوه الغبار ويلفه النسيان، ينتظر من يتفضل ببعث الروح في أوصاله، ليستفيق من غيبوبته الطويلة وينهض بالأوضاع المتردية...فلا انتخابات جماعية حدد زمن إجرائها ولا مجالس الجهات تم التفكير في آلياتها، كل شيء معلق إلى أجل غير معلوم، ولا أحد يحمل تصورات تطمئن المواطنين أمام هذا الغموض البهيم الذي يغلف مستقبلهم، كيف لحقلنا السياسي استنبات زهور الديمقراطية العبقة في ظل ما يشوبه من طفيليات؟ أين نحن من الاستثناء في ظل ما بتنا نحصده من انكسارات ونراكمه من إخفاقات؟ أزمات متلاحقة وتراجعات مهولة تكشف عنها تقارير السنة الفارطة 2012، ولنأخذ على سبيل المثال تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وما يتضمنه من رصد للعديد من الاختلالات في تسيير وتدبير شؤون الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية ووكالات التنمية والجامعات والأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وكذا تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وما يثيره من مخاوف منبها إلى ما تواجهه البلاد من هشاشة اقتصادية ومالية متنامية، وتحديات اجتماعية ملحة رغم توفرها على مقومات حقيقية، ناهيكم عما تعرفه العدالة من خلل تتسع رقعته في العلاقة بين وزارة العدل والحريات والهيئة القضائية بالرغم من الحوار الوطني الجاري لإصلاح المنظومة القضائية، مما قد يمس بصورتها ويضر هيبتها...
إن الحكومة المتأسلمة انطلقت بشكل خاطئ، واستمرت في مراكمة صنوف منالأخطاء المتنوعة، انطلاقا مما ميز ائتلافها من تشرذم وتفكك، حيث وجدنا منذ البداية رئيسها السيد ابن كيران، المفروض فيه التحلي بروح الانضباط لقوانين اللعبة السياسية والاتصاف بضوابط القيادة الرصينة، في بث روح الانسجام ومد وشائج التجانس والتآلف بين مكونات حكومته، يقضم أكثر مما يستطيع هضمه وينفرد بالقرارات دون إشراك الآخرين ما عدا البعض من وزراء حزبه، كما لوكان الآخرون مجرد "كومبارسات".من تم صوبت فوهات البنادق نحوهوفتحت النيران على نهجه المثير للجدل، ليلج نفقامظلما من الصراع مع الجميع أغلبية ومعارضة، تارة يهدد بالجمر المشتعل تحت رماد الربيع العربي واستعداده للنزول إلى الشارع، وأخرى بإجراء انتخابات مبكرة... مما أدى إلى انسحاب أكبر حلفائه وأخيه اللدود السيد: حميد شباط الأمين العاملحزب الاستقلال، وتحويل جلسة المساءلة الشهرية إلى حلبة للتنابز بالألقاب، ودفع بالمعارضة إلى دخول في تصفية حساباتها بمقاطعة الجلسات إلى حين... أملنا كبير في أن يستوعب السيد ابن كيران الدرس من هذه "اللفتة" الملكية، ويستسيغ أبعادها بقليل من السمن والعسل، حتى تكون النسخة الثانية من حكومته في مستوى التحديات، التي تتطلب مسؤولية متشبعة بالديمقراطية الحقة والإيمان النقي بثقافة حقوق الإنسان، وأن تكون قادرة على الاستغلال الأمثل للإمكانات والموارد المتاحة، واتخاذ مبادرات جريئة في صياغة قرارات صائبة وشجاعة، تتسم بروح المواطنة الصادقة في مناخ سليم من التحاور والمقاربات التشاركية، باستحضار كافة هفوات الماضي القريب لتحاشيها، والحرص الدائم على الاستجابة لمطامح الشعب وتطلعاته ضمانا للتنمية والاستقرار وللتقدم والازدهار، حتى ينعم المواطنونبالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم...