أداء إيجابي في بورصة الدار البيضاء    منفذ الدهس بنيو أورلينز "داعشي"    وفاة أكبر بطلة أولمبية في العالم المجرية أغنيش كيليتي عن 103 أعوام    إدارة السجن المحلي واد زم تفند مزاعم بخصوص وفاة سجين    توقيف أربعة أشخاص في طنجة للاشتباه في تورطهم في حيازة وترويج المخدرات    فرار مغاربة بمطار مالطا بعد هبوط اضطراري لطائرة تركية    الفيفا تعتبر إبراهيم دياز نقطة تحول في مسار المنتخب الوطني سنة 4202    البطولة الاحترافية.. مباراة واعدة بين تواركة و"الماص" والفوز مطلب يوحد الوداد و"الماط"    10.393موظف أمن استفادوا من الترقية برسم السنة المالية 2024    مالي تندد ب«استمرار تدخل» الجزائر في شؤونها    اليورو يتراجع إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من سنتين مقابل الدولار    تفاصيل متابعات في حق مقاولين متهمين بالنصب على ضحايا زلزال الحوز    بلاغ من المغرب التطواني بخصوص جمهور الوداد    هولندا.. العثور على جثة مهاجر ينحدر من الريف بعد 11 يوما من اختفائه    قطب الريسوني ورشيدة الشانك ومحمد العناز يفتتحون سنة 2025 في دار الشعر بتطوان    تسجيل هزة أرضية خفيفة بإقليم أزيلال    سيارة تصدم شرطيًا أثناء أداء مهامه بطنجة    "مقتصدو التعليم" يحتجون بالرباط    بشار الأسد يتعرض لمحاولة اغتيال    المعارضة بورزازات تطعن في انتخابات رئيس المجلس وتصفها ب"المذبحة القانونية"    فيفا: رحلة دياز تعيد المغرب إلى القمة    تفاقم البطالة والفساد والمديونية.. منظمة نقابية تستعرض إخفاقات الحكومة في 2024    تأجيل محاكمة مبديع إلى 9 يناير الجاري    السلطات الفلسطينية تقرر توقيف بث قناة الجزيرة القطرية و"تجميد" كافة أنشطتها    شرطة كوريا الجنوبية تداهم مطارا في إطار الكارثة الجوية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    خطر الدوغمائية على مآل "الميثاق الغليظ" في المغرب!    مقتل شخص وإصابة عدة أشخاص في انفجار سيارة كهربائية بلاس فيغاس    ّ"البذخ مقابل الجوع".. زعيم البوليساريو يبني قصرًا فاخرًا بتندوف الجزائرية    صن داونز يصل إلى المغرب لمواجهة الرجاء    تقرير يصنف المغرب ضمن أكثر الدول استهلاكًا للبن    صفرو: ثلاث مجموعات شركات رائدة عالميا في إنجاز محطات نقل الطاقة بواسطة الضخ تتنافس لنيل مشروع "محطة المنزل" للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب    إختتام الدورة السادسة للمهرجان الدولي للسينما و التراث    ضحايا زلزال الحوز .. لفتيت يكشف تفاصيل عمليات النصب    مجموعة من التعديلات الضريبية تدخل حيز التنفيذ مع حلول السنة الجديدة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    شركة "مايكروسوفت" تطور نموذجا لذكاء اصطناعي جديد لتنفيذ المهام بنحو مستقل    تنظيم الدورة الأولى لمهرجان أفلام الصحراء    كلشي بالمكتاب .. الدوزي يختتم 2024 بإصدار جديد    المنظمة العالمية للأرصاد الجوية: 2024 الأكثر دفئا على الإطلاق    وفد سوري برئاسة وزير الخارجية يحل بالرياض في أول زيارة رسمية خارج البلاد    مسار استقلال السلطة القضائية في السياسات العمومية كتاب جديد للقاضي عبد الله كرجي    مشروع الغاز المشترك بين موريتانيا والسنغال.. نموذج للتعاون الإقليمي    زياش يلتقي بمعجبين مغاربة في دبي    صدمة جديدة .. الليغا تزيد أوجاع برشلونة    أحكام ‬قضائية ‬‮‬ضد ‬‮"صناع ‬التفاهة" وارتياح ‬كبير ‬لدى ‬للرأي ‬العام    وفاة الكاتب الفرنسي باسكال لينيه الحائز جائزة غونكور عام 1974    دراسة: الصيام المتقطع يساعد في علاج اضطراب التمثيل الغذائي    باحثون يطورون علاجا آمنا وغير مسبب للإدمان لتسكين الآلام    الطهي يتجاوز الفواكه والخضروات باستخدام أجزاء الأشجار    تنبيه من خطورة عودة انتشار "بوحمرون" بالمغرب ودعوة إلى ضرورة التلقيح للقضاء عليه    الدكتور فؤاد بوعلي ضيفا في حلقة اليوم من "مدارات" بالإذاعة الوطنية    باسل خياط يخالف مبادئه ويقع في الحب ضمن الدراما الاجتماعية الرومانسية "الثمن" على "5MBC"    بنكيران: الملك لم يورط نفسه بأي حكم في مدونة الأسرة ووهبي مستفز وينبغي أن يوكل هذا الموضوع لغيره    الثورة السورية والحكم العطائية..    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقفات مَع وفاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
نشر في أخبارنا يوم 29 - 09 - 2024

شاءت حكمة الله تعالى أن يكون قضاؤه في تجرع الموت بشدته وآلامه أمرا عاما لكل أحد، مهما كانت علو منزلته ودرجة قُرْبه مِنَ الله، حتى يدرك الناس أنه لو سَلِم من الموت أحدٌ لَسَلِمَ منه خير البشر وأفضل الخلق مُحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزمر:30). قال البغوي: "هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته وموتهم فاحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يذكر ذلك تحذيراً من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثاً على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى إن عُمر لما أنكر موته احتج أبو بكر بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوى وتقل الحسرة. ومعنى {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي ستموت".. وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح. عن معاوية رضي الله عنه قال: (قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة) رواه مسلم. قال ابن حجر: "وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعًا"..
ولنا مع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقفات لأخذ الدروس والعِبر:
1 أَمَارَات ودلالات عَلَى اقْتِرَاب موت النبي صلى الله عليه وسلم:
الأحداث الكبيرة يجعل الله عز وجل لها مقدمات وإرهاصات، ولا شك أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر البشر، ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع وحي الله عن الأرض.. وقد تتابعت الأمارات والإشارات الدالة على قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، من آيات قرآنية، ومواقف وأحاديث نبوية، فنزلت بعض الآيات القرآنية واضحة صريحة تتحدث عن موته صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزمر:30)، وقال تعالى سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(الأنبياء:34).. ونزلت بعض الآيات القرآنية تشير إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تصرح به. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه مع أشياخ بدر (من شهد بدراً من المهاجرين والأنصار)، فسألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}(النَّصر:1)، فقال بعضهم: أُمِرْنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. قال ابن عباس: فقال لي عمر رضي الله عنه: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ قال: فقلتُ: لا، قال: فما تقول؟ قال رضي الله عنه: هو أجل (وفاة) رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، وذلك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا. فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول) رواه البخاري. وقال ابن القيم: "كأنه رضي الله عنه أخذه من قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ}(النَّصر:3)، لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور".. وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنَّ رَسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جَلَس علَى المِنْبَر فقال: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَه اللَّهُ بيْن أنْ يُؤْتِيَه مِن زَهْرَة الدُّنْيا ما شاء، وبيْن ما عِنْدَه، فاخْتار ما عِنْدَه. فَبَكَى أبو بَكْرٍ وقال: فَدَيْناكَ بآبائنا وأُمَّهاتنا، فَعَجِبْنا له، وقال النَّاس: انْظُرُوا إلى هذا الشَّيْخ، يُخْبِر رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن عَبْدٍ خَيَّرَه اللَّهُ بيْن أنْ يُؤْتِيَه مِن زَهْرَة الدُّنْيا وبيْنَ ما عِنْدَه، وهو يقول: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! فَكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكانَ أبو بَكْرٍ هو أعْلَمَنا به)..
ومِن هذه الدلائل والإشارات إلى قرب موته صلى الله عليه وسلم: وصيته لمعاذ رضي الله عنه: (يا مُعَاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري. فبكى معاذ لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. قال ابن كثير: "وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذاً رضي الله عنه لا يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكذلك وقع".. وكلك مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم مع جبريل مرتين. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة رضي الله عنها، فأخبرها: أن جبريل كان يعارضه القرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني (يدارسه ويراجعه) به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك) رواه البخاري. وفي حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)، وفي رواية للنسائي وصححها الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا مناسككم عني، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)..
2 أَظْلَمَتِ المَدِينة:
يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأيام وحشة وظلاماً ومصاباً على المسلمين، بل والبشرية جمعاء، ولم يُرَ في تاريخ الإسلام أظلم منه. ويصف أنس بن مالك رضي الله عنه مشاعر المسلمين في يوم وفاته صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسَنَ ولا أضوَأ مِن يومٍ دخَلَ علينا فيه رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيتُ يومًا كان أقبَح ولا أظلَم مِن يومٍ مات فيه رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد. قال الشيخ محمد الأمين الهرري في " شرح سنن ابن ماجه": " أي: لما حصل (اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.. أضاء منها) أي: من المدينة (كلّ شيء) فيها، وهذا كناية عن فرح أهلها وسرورهم بقدومه صلى الله عليه وسلم، (فلما كان اليوم الذي مات فيه) رسول الله صلى الله عليه وسلم (أظلم منها) أي: من المدينة (كلّ شيء) فيها، وهذا كناية عن شدة حزن أهلها وتأسفهم بوفاته صلى الله عليه وسلم". وقال أبو ذؤيب الهذلي: "قدِمْتُ المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلّوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قُبِضَ (مات) رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
وقال ابن رجب في "لطائف المعارف:" لما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم مَنْ دهش، فخولط، ومنهم مَنْ أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانُه، فلم ينطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وقال: إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى، وكان من هؤلاء عمر، وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُسجى، فكشف عن وجهه الثوب، وأكب عليه، وقبل جبهته مرارا وهو يبكي، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها. ثم دخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون عليه، فتكلم أبو بكر وتشهد وحمد الله، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال: "منْ كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومَنْ كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وتلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144)، فاستيقن الناس كلهم بموته، وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر، فتلقاها الناس منه، فما يُسمع أحد إلا يتلوها .."
3 مضاعفة الأجر والثواب، ومنزلة الشهداء:
أراد الله عز وجل الخير بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث ضاعف عليه شدة الألم، سواء في المرض أو في سكرات الموت، ليضاعف له الأجر يوم القيامة. وتصف عائشة رضي الله عنها مرض النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: (ما رأيتُ الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أتيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه، وهو يُوعَك وعْكًا شَديدًا، وقُلْتُ: إنَّكَ لَتُوعَك وعْكًا شَديدًا، قُلْتُ: إنَّ ذاك بأنَّ لك أجْرَين؟! قال: أَجَلْ، ما مِن مُسلِمٍ يُصيبُه أذًى إلا حَاتَّ الله عنه خَطاياه، كما تَحاتُّ (تتساقط) ورَقُ الشَّجَر) رواه البخاري. قال القرطبي: "لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان: إحداهما: تكميل فضائلهم، ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصا ولا عذابا، بل هو كما جاء: (أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل). والثانية: أن يعرف الخَلق مقدار ألم الموت، وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقا، ويرى سهولة خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت، ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، قطع الخَلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقا لإخبار الصادقين عنه".. ومِنْ أوجه إرادة الله تعالى الخير لنبيه صلى الله عليه وسلم في وفاته أن أعطاه منزلة الشهداء، ليجمع له كل المنازل والدرجات، فقد مات صلوات الله وسلامه عليه شهيداً وإن كان مات على فراشه كما قال كثير من أهل العلم، وذلك بسبب آثار تلك الشاة المسمومة التي تناولها بخيبر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ) رواه البخاري. وفي ذلك إشارة إلى خبر اليهودية التي وضعت السم له في غزوة خيبر.. (فهذا أوان وَجَدْتُ انْقِطاعَ أَبْهَري مِن ذلك السُّمِّ) أي: هذا وَقتٌ شعَرْتُ فيه بقُرْب انْقِطاعِ أَبْهَري - وهو العِرْق الَّذي يَصِل إلى القَلْب، فإذا انقَطَع لم يكُنْ معَه حَياة - بسَببِ ذلك السُّمِّ، وكان ذلك بعْدَ مُدَّةٍ مِن أكْلِه منها تُقارِب ثَلاث سِنين، فجمَع اللهُ تعالى له بيْنَ النُّبوَّة ومَقام الشَّهادة فمات نَبيًّا شَهيدًا صلى الله عليه وسلم.. والتَّوْفيق والجمع بيْن هذا وبيْن قول اللهِ تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67) أنَّه صلى الله عليه وسلم مَعْصومٌ مِن القَتلِ على وَجْهِ القَهرِ والغَلَبة، وأنَّه بعْد هذه الأكْلة مكَث سِنين يُجاهِد حتَّى فتَح اللهُ عليه الفُتوحات، وآمَن أهلُ الجَزيرة، وبَقيَ أثَرُ السُّمِّ حتَّى أكرَمه اللهُ بالشَّهادة بسَببِه..
4 طبتَ حيا وميتا:
حّفِظ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم جمال وجهه حتى آخر يوم في حياته، بل وبعد موته. قال أنس رضي الله عنه: (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة (في صَلاةِ الفجْر اليوم الذي مات فيه) ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف) رواه البخاري. قال النووي: "عبارة عن الجمال البارع، وحُسْن البَشْرة، وصفاء الوجه واستنارته".. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّله قال: بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيّا وميتا) رواه البخاري. (طبت حيا وميتا) حيث كان صلى الله عليه وسلم طيِّبَ الرِّيح والأثَر في الدُّنْيا وهو حَيٌّ، وكذلك طيَّبَ اللهُ أثَرَه وريحَه وهو ميِّتٌ..
5 فضل أم المؤمنين عائِشة رضي الله عنها:
في وفاته صلى الله عليه وسلم مظهر ودليل لحسن معاشرته لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وعدله بينهن، وتطييب خاطرهن حتى في أيام الشدة والمرض الذي مات فيه، فعندما ثقل جسمه لشدة مرضه، وشقَّ عليه التنقل بين حجرات زوجاته، استأذنهن أن يُمَرَّض في بين عائشة رضي الله عنها لتقوم برعايته، فأذنَّ له، وفي ذلك صورة من صور العدل بين زوجاته حتى قبيل وفاته، وفيه أيضا دليل على عظيم حبه صلى الله عليه وسلم لعائِشة رضي الله عنها.. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه (اشتَدَّ به المرَضُ الَّذي مات فيه)، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَه أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِي فَأَذِنَّ له) رواه البخاري. ففي وفاته صلى الله عليه وسلم دليل واضح لفضل عائشة رضي الله عنها، وشدة حبه لها، وهذا أمر معلوم من سيرته وحياته، وقد سُئِل صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قيل: فمِنَ الرجال؟ قال: أبوها) رواه البخاري. فهي الصدّيقة بنت الصدّيق، أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما.. ومن المقطوع به أنه صلى الله عليه وسلم قد مات وهو يحب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أكثر مما سواها من زوجاته، وكانت رضي الله عنها صوّامة قوّامة، تُكثر من أفعال البرّ ووجوه الخير، وقلّما كان يبقى عندها شيءٌ من المال لكثرة بذلها وعطائها، حتى إنها تصدّقت ذات مرّة بمائة ألف درهم، لم تُبق منها شيئاً، وقد شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل فقال: (فضلُ عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.. ومما يشهد لها بالفضل والعلم قول أبي موسى رضي الله عنه: "ما أُشْكِل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديثٌ قط فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علماً" رواه الترمذي. وقال عنها عروة بن الزبير ابن اختها أسماء : "ما رأيتُ أحدًا من الناس أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال وحرام، ولا بشِعْر، ولا بحديث العرب، ولا النسب مِن عائشة رضي الله عنها". وقال الزُّهري: "لو جُمِع علم نساء هذه الأمة فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كان عِلْم عائشة أكثر من علمهنّ" رواه الطبراني.
أجمع أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين عاما، قضى منها أربعين قبل النبوة، وثلاثة عشر عاما بعد البعثة بمكة، وعشر سنين في المدينة المنورة بعد الهجرة، وكانت وفاته يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية، وما ترك دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.. وكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس، كان يوم وفاته أشد الأيام وحشة وظلاما ومصابا على المسلمين، بل والبشرية جمعاء.. وكان في وفاته صلى الله عليه وسلم ووصاياه لِلصَّحابة رضوان اللهِ عليهم وللأمة الإسلامية من بعدهم، الكثير من العِبَر والعِظات، والحِكَم والأحكام، الجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في حياتنا وواقعنا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.