ما الذي حدث أصلا ليطرح السؤال؟ هل استجد ما يخالف المعلن والمعروف؟ قد يحاجج البعض. ألا يردد الجزائريون وفي أكثر من مرة بأنهم متمسكون بموقفهم من جارتهم، ويعتبرونه موقفا «ثابتا»، ما يعطي الانطباع على أنه سيبقى جامدا لا يتزحزح من مكانه ولا يتبدل تحت أي ظرف؟ قد يقول الآخر. لكن أليس «دوام الحال من المحال» وفق الحكمة المعروفة، واستمرار الجفاء والقطيعة بين بلدين جارين هو ومثلما تدل على ذلك عدة شواهد وأمثلة من التاريخ القديم والحديث، أمر شاذ وغير عادي في حياة الأمم والشعوب، لا بد له خاتمة ونهاية، طال الأمد أم قصر؟ ذكرنا قبل أسبوع من الآن، أن الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها في الجزائر، ربما تكون فرصة لفتح صفحة جديدة بين البلدين المغاربيين. ويبدو اليوم أن هناك عدة مؤشرات قد تؤكد ذلك. لقد مضى ما يقرب من الثلاث السنوات على قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب، وطوال تلك المدة بدت تلك العلاقات، وبعيدا عن فترات الركود والجمود، وخلال بعض المراحل شديدة التقلب، بل حتى غريبة الأطوار، ففي الوقت الذي كان يمكن فيه أن يتسبب موقف بسيط، أو حدث عرضي، أو حتى هامشي في مزيد تأجيج الأوضاع وتسخينها، بين من وصفهما العاهل المغربي ذات مرة ب»الشقيقين التوأمين»، كانت تكفي عبارة صغيرة أو ردة فعل بسيطة من هذا الطرف، أو ذاك لإخماد نار التصعيد، واستعادة نوع من الهدوء النسبي بين الجزائريين والمغاربة، يعيد الروح نسبيا، وإلى حد ما لبعض التطلعات والآمال، بإمكانية حدوث انفراج قريب يفضي إلى عودة المياه إلى مجاريها بين الطرفين. ولعل الشاهد الأخير على تلك الحالة هو تسلسل مجموعة من المواقف والأحداث التي صدرت الشهر الماضي من الجانب الجزائري وعكست ذلك، ففي أعقاب الإدانة القوية التي صدرت من الجزائر ضد ما وصفتها «بعملية السطو» على مقار دبلوماسية تابعة لها في العاصمة المغربية، ووصلت حد تلويحها بالرد على ما اعتبرتها استفزازات من جانب المغرب، و»بكل الوسائل التي تراها مناسبة» مثلما عبرت عن ذلك خارجيتها وتهديدها «باللجوء إلى كل السبل والوسائل القانونية المتاحة، لاسيما في إطار الأممالمتحدة، من أجل ضمان احترام «المصالح الجزائرية، مثلما عبرت عن ذلك في أحد بياناتها ردا على ما عرف بالخلاف العقاري بين العاصمتين، خرج رئيس دبلوماسيتها أحمد عطاف بعدها وفي أقل من عشرة أيام فقط، ليقول في مؤتمر صحافي باختصار شديد وبمنتهى البساطة إن «الموضوع أثاره المغاربة، فقمنا بالرد، فأخذوا قرارا نعتبره قرارا لائقا، وانتهى الموضوع في فصله هذا»، من دون أن يكشف لا عن الطريقة التي تم بها إنهاء ذلك الخلاف، ولا طبيعة القرار المغربي الذي اعتبره لائقا، لكن الأمر لم يتوقف عن ذلك الحد فحسب، إذ أعلنت الخارجية الجزائرية بعدها بساعات قليلة وبشكل متزامن تقريبا عن قرار الرئيس عبد المجيد تبون، وفي إطار حركة دبلوماسية شملت عدة عواصم تعيين قنصلين جديدين للجزائر في المغرب، في كل من مدينتي وجدة والدار البيضاء، رغم استمرار القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، ما دفع البعض لتأويل ذلك على أنه نوع من الرغبة من جانب الجزائر لخفض التصعيد مع الرباط، لكن ما بقي غير واضح بالنسبة لكثيرين هو، ما إذا كان مثل ذلك الأمر وليد بعض الاعتبارات المؤقتة والظرفية، أم أنه انعكاس لتوجه جديد داخل القيادة الجزائرية، قد يؤدي في مرحلة لاحقة إلى تطبيع تدريجي بين العاصمتين. غير أن ما زاد من حدة التكهنات وجعل تلك التساؤلات تبدو مشروعة ومطروحة، بقوة هو تكرار الرئيس عبد المجيد تبون ولثلاث مرات متتالية لعبارة «الباب مفتوح»، في سياق رده على سؤال طرحه عليه صحافي محلي في مقابلة بثها التلفزيون الجزائري مساء السبت الماضي، حول أهداف المبادرة التي أطلقتها الجزائر قبل شهر بعد اجتماع عقد على هامش «قمة الغاز» التي احتضنتها وضمت الرئيسين الجزائريوالتونسي ورئيس مجلس الدولة الليبي، وتقرر على اثره «عقد لقاء قمة مغاربي ثلاثي على مستوى الرؤساء، كل ثلاثة أشهر لتنسيق أطر الشراكة والتعاون «بين الدول الثلاث، وتأكيده في ذلك الصدد على أنها جاءت فقط لسد «الفراغ» الموجود حاليا بفعل حالة الشلل والجمود التي يعرفها الاتحاد المغاربي، وأنها لن تقصي أحدا، «وليست موجهة ضد اي دولة»، قبل أن يمضي أبعد من ذلك ويشدد على أن «جيراننا في الغرب في إشارة واضحة إلى المغرب –الباب مفتوح أمامهم. لكن كانت لهم خيارات أخرى ولم يستشيرونا فيها على غرار طلب عضوية «الإكواس» والتنمية في الخليج، وهم أحرار في خياراتهم إلا أن هناك بعض الأمور تخصنا مع بعض، لأن مشاكلنا متشابهة» على حد تعبيره. ومن الواضح أن الشحنة العاطفية التي تضمنتها تلك التصريحات، تبدو بعيدة كل البعد عن اللغة السائدة في حديث المسؤولين الجزائريين في السنوات الثلاث الأخيرة، على الأقل، في علاقتهم بالمغرب. وهذا أمر ليس من الممكن تجاهله بأي حال فهو يمثل وبلا شك نوعا من التغير الملحوظ في طبيعة الخطاب الرسمي الجزائري نحو الجارة الغربية، ويجعل ومن خلال ما تضمنه من إشارات، حدوث انعطاف نوعي، أو تحول جذري وعميق في موقف الجزائر منها، أمرا واردا أكثر من أي وقت مضى، ولو أن معالمه قد تتضح وبشكل أكثر وضوحا في أعقاب الانتخابات الرئاسية المقبلة، المقرر إجراؤها الخريف المقبل. ومن المؤكد أن أبرز ملاحظة تستدعي الانتباه هنا هي، إقرار أعلى هرم في السلطة أي الرئيس الجزائري بأن مشروع الاتحاد المغاربي الثلاثي الذي طرحته بلاده قبل فترة، ليس موجها ضد المغرب من جهة، وأنه سيكون مفتوحا أمامها من الجهة الأخرى. وهذا يعد وفي حد ذاته تطورا مهما ويمثل رسالة طمأنة لا إلى المغاربة فحسب، بل إلى باقي الدول والشعوب المغاربية أيضا. ولو أن السؤال الذي يبقى قائما هو ما الغرض من إنشاء كيان مغاربي جديد ليس معروفا بعد، وفق أي أسس أو ضوابط سيتم تركيزه، ولا في ما إذا كانت ستتوفر فيه الشروط، أو الضمانات الكافية حتى لا تستأثر به أي دولة من الدول الخمس، وتستغله لا لخدمة العمل المغاربي المشترك، بل لتحقيق خططها ومصالحها، في الوقت الذي يمكن فيه، إن توفرت الرغبة والإرادة، إصلاح الاتحاد المغاربي الحالي من الداخل، دون نسفه واستبداله بآخر. ولقائل أن يقول وهل تكفي بعض العبارات الودية أو الدبلوماسية للحديث عن تغير فعلي وجذري في الموقف الجزائري من المغرب؟ ألم يكن من الأنسب أن توجه لها مثل تلك الدعوة عبر القنوات الدبلوماسية بدلا من الإعلامية؟ لكن أليس من العبث أن يتمسك البعض اليوم بسياسة الكل أو لا شيء؟ أليس من الاجدر تشجيع الجزائريين والمغاربة على أن يقتربوا من بعضهم بعضا بخطى الأرانب، أو حتى بخطى السلاحف؟ كاتب وصحافي من تونس