محمد كريم بوخصاص يواصل المغرب مدّ يده نحو الجزائر بحثا عن حوار "غائب" رغم القطيعة التي تعرفها علاقات البلدين منذ 24 غشت 2021، لكن لهذه اليد الممدودة قصة تستحق أن تُروى، ومعانٍ ينبغي أن تُفهم بشكل جيد. خاصة أنها تكررت طيلة فترة القطيعة، آخرها الدعوة الملكية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لزيارة المغرب من أجل الحوار بعد تعذر حضور الملك محمد السادس للقمة العربية التي احتضنتها الجزائر مطلع الشهر الجاري لعدم تفاعل قصر المرادية مع الترتيبات المطلوبة من المغرب.
قبل أربع سنوات من الآن، ورغم الأمطار الخفيفة التي تهاطلت لبعض الوقت من «سماء» علاقات الجارين الملبدة بالغيوم باستمرار، عقب دعوة ملكية صريحة للجزائر بمناسبة الذكرى ال43 للمسيرة الخضراء ل»الحوار المباشر والصريح من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية التي تعيق تطور البلدين»، والتي أعقبتها رسالة «إيجابية» من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الملك، لم يتردد محيي الدين عميمور مستشار الرئيس الأسبق هواري بومدين ووزير الاتصال الجزائري الأسبق، في حوار له مع «الأيام»، في التعبير عن تشاؤمه من مستقبل علاقات البلدين، حين قال بصريح العبارة: «لا أرى في الأفق ما يشجعني على الاطمئنان»، وأَصَرَّ على رفضه استعمال عبارة «إنهاء القطيعة» كيفما كانت التطورات الإيجابية دون «تحقيق جو الثقة المتبادلة».
في ذلك الوقت، كانت الجزائر تعيش آخر أيامها تحت عهدة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يُمسِكُ بِجَمرَةِ السلطة رغم مرضه الشديد الذي أقعده على كرسي متحرك، قبل أن تشهد البلاد، ثلاثة أشهر بعد ذلك، احتجاجات شعبية عارمة في ما عُرِفَ ب»حراك فبراير 2019»، وينطلق رسميا مسار التحضير لوصول عبد المجيد تبون المقرب من قائد الجيش آنذاك قايد صالح لقصر المرادية والذي استُكمِل في 13 دجنبر 2019، علما أنه كان خارج المشهد العام منذ إعفائه من منصبه كوزير أول في غشت 2017 والذي لم يمكث فيه سوى ثلاثة أشهر.
اليوم، وفي ظل التطورات التراجيدية التي ميزت علاقات البلدين الجارين منذ وصول «تبون» إلى السلطة، ربطت «الأيام» الاتصال بمحيي الدين عميمور مجددا بحثا عن استقراء رأيه في الغيوم التي تلبد سماء علاقات البلدين، فجاء جوابه مختصرا ومعبرا في الآن ذاته: «لا أظن أن الوقت مناسب لإجراء الحوار!!».
في هذا التوقيت بالذات، يُعتبر «الحوار» أغلى ما هو مطلوب، خاصة بعد توجيه الملك محمد السادس دعوة ل»تبون» لزيارة المملكة الشريفة لأجل «الحوار» في الثاني من نونبر الجاري، بعد أن تعذرت عليه زيارة الجزائر خلال القمة العربية لعدم التفاعل الإيجابي مع الترتيبات المطلوبة لتحقيق ذلك. وفي الوقت الذي لم يصدر من قصر المرادية أي تعقيب بشأن الدعوة الملكية للحوار حتى الآن، جاء رد «عميمور» الذي يقصد الحوار الصحافي وليس الحوار السياسي المثقل بماضي الخصومة.
لم يكن «عميمور» الوحيد الذي يمتنع حاليا عن الكلام حول علاقات بلاده مع المملكة، لكنه كان الأكثر جرأة حين رد برسالة مكتوبة، بينما اختار مثقفون وسياسيون جزائريون آخرون ممن تواصلت معهم «الأيام» – حمل سلاح «التجاهل»، وسار على منوالهم مثقفون مغاربة أيضا عبروا صراحة عن صيامهم الطوعي عن الكلام في موضوع الجزائر، من بينهم وزير سابق رد على سؤال «الأيام» بالقول: «من عليه الحديث هو وزير الخارجية الذي ينبغي أن يخرج ليشرح لنا ماذا يحصل (…) أما نحن كمثقفين فلا أحد يستمع إلينا»، فيما اختار المؤرخ مصطفى بوعزيز أن يستجيب لطلب الحوار دون الخوض في تفاصيل «القطيعة» المغربية الجزائرية.
غياب «السيروم»!
بعيدا عن مشهد الصمت الذي يخيم على مثقفي البلدين في الأعوام الأخيرة، بعدما كانوا يلعبون دور «السيروم» الذي ينعش علاقات البلدين «المريضة» منذ اندلاع «حرب الرمال» سنة 1963، مثل ما حصل في الزيارة الوازنة التي نظمها وفد مشترك بين «مركز محمد بنسعيد آيت يدر للأبحاث» والحزب الاشتراكي الموحد، برئاسة المقاوم محمد بنسعيد آيت يدر، إلى الجزائر في فبراير 2016، والتي التقوا خلالها غالبية الطيف السياسي والمدني الجزائري، بما في ذلك الوزير الأول عبد المالك سلال ووزير الخارجية رمطان العمامرة.
وعلى امتداد تاريخ علاقات البلدين التي تعرف مدا وجزرا، لم تغب مبادرات المثقفين من البلدين الداعية إلى الهدنة واستثمار المشترك، حتى خلال مرحلة قطع المغرب علاقاته مع الجزائر في مارس 1976 احتجاجا على اعترافها ب»الجمهورية الصحراوية» التي أعلنتها جبهة البوليساريو، ولم تزدهر حتى مع حجم العقاقير التي دخلت جسدها المريض في 26 فبراير 1983 بعقد قمة ثنائية بين الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد عند الحدود، وتبادل زيارات وزيري خارجية البلدين في يوليوز ونونبر 1987، وزيارة الحسن الثاني للجزائر بعد قطيعة امتدت 15 عاما للمشاركة في قمة عربية طارئة، وزيارة بن جديد لإفران تتويجا للمصالحة، والتي تم خلالها الاتفاق على مشروع الأنبوب النفطي لربط الجزائر بأوروبا عبر المغرب الذي أنهى عمره «تبون».
مشهد الصعود والهبوط في علاقات البلدين الفريد من نوعه، تواصل في تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا في 16 غشت 1994، باستنكار المغرب تصريحات الرئيس الجزائري اليمين زروال التي اعتبر فيها أن «الصحراء بلد محتل»، وفرضه على الجزائريين تأشيرة لدخول أراضيه بعد هجوم استهدف فندقا في مراكش قتل فيه سائحان من إسبانيا، واستمر في 2011 بعدما أجريت لقاءات عدة بين الرئيس بوتفليقة والعاهل المغربي محمد السادس أسهمت في «كسر الجليد»، وكان من نتائجها إعلان الملك في يوليوز من سنة 2011، تأييده إعادة فتح الحدود البرية وتطبيع العلاقات مع الجزائر.
ثلاث رسائل
استحضار تاريخ البلدين، يُظهر أن المملكة تكون دائمة سباقة إلى مد اليد للحوار مع جارتها الشرقية، رغم مواصلة الجزائر تمويل وإيواء وتسليح الانفصاليين في الصحراء، واستمرارها في تغذية الأزمة، كما حصل في القمة العربية التي احتضنتها مطلع الشهر الجاري والتي اشتكى فيها الوفد المغربي بقيادة وزير الشؤون الخارجية والتعاون ناصر بوريطة من عدم معاملته على قدم المساواة مع بقية الوفود، إذ سارع الملك إلى إطلاق دعوة جديدة للحوار تعتبر الثالثة من نوعها منذ مجيء «تبون» إلى السلطة في دجنبر 2019، والذي اختار قطع العلاقات الدبلوماسية لبلاده مع الرباط في 24 غشت 2021.
ويعود تاريخ الدعوة الأولى للحوار إلى اليوم الموالي لوصول «تبون» إلى قصر المرادية، عندما بعث الملك محمد السادس رسالة تهنئة دعاه فيها إلى فتح «صفحة جديدة» في علاقات البلدين «على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء»، بينما جاءت الثانية في يوليوز 2022، في عز القطيعة الجزائرية الأحادية الجانب، عندما أعلن الملك في خطابه بمناسبة عيد العرش صراحة: «أتطلع للعمل مع الرئاسة الجزائرية حتى يتمكن المغرب والجزائر من العمل يدا بيد من أجل إقامة علاقات طبيعية».
اليد المغربية الممدودة إلى الجزائر لم تعبر عنها هذه الدعوات الثلاث فقط، بل لخصتها رسائل المجاملة التي تلقاها «تبون» من الملك محمد السادس في الثلاث سنوات الأخيرة (اثنتان في 5 يوليوز 2020 و2021 بمناسبة عيد الاستقلال، والثالثة في فاتح نونبر الذي يصادف ذكرى الثورة الجزائرية)، لكن دون أن تجد لها صدى في قصر المرادية حتى اليوم.
24 غشت 2021: إعلان الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب بعد أقل من أسبوع عن إعلان إعادة النظر في علاقاتها المتوترة منذ عقود مع الجارة الغربية. جاء ذلك في بيان تلاه وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في ندوة صحافية «باسم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون». 23 يونيو 2022: استفزازات تعرض لها وفد الرياضيين المغاربة الذين شاركوا في الدورة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسط التي احتضنتها الجزائر في الفترة ما بين 25 يونيو و5 يوليوز، والذي بلغ عدده 137 رياضيا، كثالث أكبر الوفود المشاركة من إفريقيا، كان من أبرز ملامحها بتر خريطة المغرب في افتتاح الدورة، بحضور الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وإخضاع الوفد الصحافي المغربي المرافق للوفد الرياضي (ضم 9 صحافيين) للتحقيق في قاعة صغيرة بالمطار، قبل أن يتم استصدار قرار بمنع دخوله التراب الجزائري، رغم تنديد عدد من منظمات حماية الصحافيين الوطنية والدولية. 1 نونبر 2022: إحباط محاولة حضور الملك محمد السادس للقمة العربية التي احتضنتها الجزائر، رغم بدء التحضير للزيارة المرتقبة، حيث تم إشعار جامعة الدول العربية ومختلف الدول العربية بحضور الملك الشخصي، قبل أن يصطدم وفد «المقدمة» الذي وصل الجزائر للتحضير للزيارة بغياب كل قنوات التواصل مع الجانب الجزائري، حيث قال رئيس الدبلوماسية المغربية ناصر بوريطة إن «الوفد المغربي لم يتلق أي تأكيد من الجانب الجزائري بواسطة القنوات المتاحة» بعدما طلب توضيحات عن الترتيبات المقررة لاستقبال الملك.
ورود المغرب
24 غشت 2021: حرص المغرب على تجنب التصعيد بعد قطع الجزائر علاقاتها معه، حيث سارعت المملكة إلى الإعلان في اليوم ذاته عن أخذها علما بما سمته «القرار الأحادي الجانب للسلطات الجزائرية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب ابتداء من هذا اليوم»، وتعبيرها عن أسفها لهذا القرار «غير المبرر تماما بيد أنه متوقع، بالنظر إلى منطق التصعيد الذي تم رصده خلال الأسابيع الأخيرة»، مع رفض المغرب بشكل قاطع «المبررات الزائفة، بل العبثية التي انبنى عليها». وتجلى سعي المملكة في التعامل بهدوء مع التطور الجديد، من خلال تأكيدها في بيان الخارجية المغربية أنها «ستظل شريكا موثوقا ومخلصا للشعب الجزائري وستواصل العمل، بكل حكمة ومسؤولية، من أجل تطوير علاقات مغاربية سليمة وبناءة». 31 يوليوز 2022: إعلان الملك محمد السادس نيته إقامة «علاقات طبيعية» مع الجزائر، بعد سنوات من التوترات والتصعيد الحاد، وأشهر من قطع العلاقات، إذ قال الملك في خطاب بمناسبة عيد العرش: «أتطلع للعمل مع الرئاسة الجزائرية حتى يتمكن المغرب والجزائر من العمل يدا بيد من أجل إقامة علاقات طبيعية». ولم تكن هذه المرة الأولى التي وجه فيها الملك دعوة للجزائر لفتح صفحة جديدة، ففي خطابه في ذكرى المسيرة الخضراء الذي ألقاه في نوفمبر 2018، دعا الجزائر لفتح صفحة جديدة، وإقامة علاقات جيدة، إلا أن الموقف تعقد بعدها إثر إعلان قصر المرادية قطع علاقاته الدبلوماسية مع المملكة الشريفة. ومما جاء في خطاب مد اليد إلى الجزائر أيضا، وصف محمد السادس البلدين بأنهما «شعبان شقيقان، يجمعهما التاريخ والروابط الإنسانية والمصير المشترك». ودعوته المغاربة إلى «مواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن وحسن الجوار، التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين، الذين نؤكد لهم بأنهم سيجدون دائما، المغرب والمغاربة إلى جانبهم، في كل الظروف والأحوال». 2 نونبر 2022: الملك محمد السادس يوجه دعوة إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لزيارة الرباط من أجل «الحوار»، بعدما لم يتسن للملك حضور القمة العربية الحادية والثلاثين التي عُقدت بالجزائر مطلع الشهر الجاري، وترأس وفد المغرب وزير الشؤون الخارجية والتعاون ناصر بوريطة. وحتى الآن بعد مرور أسبوع كامل – لم يصدر أي تعقيب من السلطات الجزائرية على الدعوة المغربية.