آية من كتاب الله الكريم تُعدُّ من جوامع كلم القرآن، قُصد منها الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها، والتزام ما أمر الله به، والكف عما نهى عنه سبحانه، تقول الآية: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} (القصص:41) نقف مع هذه الآية لنستخلص منها ما ترمي إليه، وذلك من خلال الوقفات التالية: الوقفة الأولى: قوله سبحانه {ظهر} أي: بان ووضح، و(الظهور) أن يبين شيء موجود بالفعل، لكنا لا نراه، وما دام الحق سبحانه يقول: {ظهر الفساد} فلا بد أن الفساد كان موجوداً، لكن أصحاب الفساد عمُّوه وأخفوه إلى أن فقَّس وفرَّخ في المجتمع. والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره. ف {الفساد} يأتي حين يطرح الإنسان قانون الله الذي ينص على (افعل) و(لا تفعل)، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإن علا تيار الفساد، وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس ولاح. الوقفة الثانية: و{الفساد} سوء الحال، وهو ضد الصلاح. واختلف العلماء في معنى {الفساد} في الآية، والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه نقصان البركة بأعمال العباد؛ كي يتوبوا. قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. ودلَّ قوله سبحانه: {في البر والبحر} على أن (الفساد) سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ف (فساد البر) يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض. و(فساد البحر) يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان، فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب، وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار، وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وذِكْرُ {البر والبحر} لتعميم الجهات، بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر، والواقعة في البحر، و(الباء) في قوله: {بما كسبت أيدي الناس} للسببية، و(اللام) في قوله: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} لام العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجعلت لام العاقبة في موضع (الفاء) كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص:8). الوقفة الثالثة: قول الحق سبحانه: {ظهر الفساد} هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبين لنا أن الرسل إنما جاءوا لإنقاذ البشرية من هذا الفساد، لكن ما دام الأمر عُلِّل فالأمر يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فكلما ظهر الفساد حلَّت العقوبة، وهذه آية كونية من آيات الله إلى قيام الساعة. ومَحْمَل صيغة فعل {ظهر} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل، وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهد، أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تُحْمَلُ صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به، فكأنه قد وقع، نحو قوله سبحانه: {أتى أمر الله} (النحل:1) وأيًّا ما كان، فالمقصود أن حلول {الفساد} بالناس بقدرة الله، كما دل عليه قوله سبحانه: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} وأن الله يقدر أسبابه تقديراً خاصًّا؛ ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم، وهو المراد {بما كسبت أيديهم}. الوقفة الرابعة: {بما كسبت أيدي الناس} أي من الآثام والموبقات، ففشا الفساد وانتشرت عدواه، وتوارثه جيل عن جيل، أينما حلوا، وحيثما وجدوا. وإسناد (الكسب) إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يُعمل منها بالأيدي؛ لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأمراض القلبية. وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك، وهو المقصود هنا، وإن كان الحكم عامًّا. ويُعْلَم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: (أن تدعو لله ندًّا، وهو خلقك) و(الند) هو المساوي والمكافئ. وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى:30) وقال عز وجل: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن:16). الوقفة الخامسة: قوله عز وجل {ليذيقهم بعض الذي عملوا} المراد بعض الجزاء على جميع العمل، لا الجزاء على بعض العمل، أي: أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يقلعوا عن مساوئ أعمالهم، كقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر:45) ثم وراء ذلك عذاب الآخرة، كما قال تعالى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه:127). قال ابن كثير: "قوله: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} أي: يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات، اختباراً منه، ومجازاة على صنيعهم". الوقفة السادسة: قوله سبحانه: {لعلهم يرجعون} أي: يرجعون عن المعاصي، ويقلعون عما هم فيه من الذنوب والمحرمات، قال قتادة: لعل راجعاً أن يرجع، لعل تائباً أن يتوب، لعل مستعتِباً أن يَستَعْتِب، والمعنى: إنما يصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم وما اكتسبوه من الآثام؛ كي ينيبوا إلى الحق، ويرجعوا تائبين، كما قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} (الأعراف:168). و(الرجاء) المستفاد من (لعل) يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يُرجى رجوعه، فإن هم لم يرجعوا، فقد تبين تمردهم، وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} (التوبة:126). الوقفة السابعة: من صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية وردت أحاديث نذكر منها ما أخرجه الحاكم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله). وأخرج ابن ماجه والبزار والبيهقي بسند حسن عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). وروى ابن ماجه بسند صحيح عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يُعْزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير). الوقفة الثامنة: قال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة؛ ولهذا جاء في الحديث: (حد يُعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) رواه ابن ماجه بإسناد حسن. والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت، انكف الناس -أو أكثرهم، أو كثير منهم- عن تعاطي المحرمات، وإذا ارتكبت المعاصي كانت سبباً في محق البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فحكم بشريعة الإسلام، من قتل الخنزير، وكسر الصليب، ووضع الجزية، وهو تركها -فلا يُقبل إلا الإسلام أو السيف- فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض: أخرجي بركاتك، فيأكل من الرمانة الكثير من الناس، ويستظلون بقحفها، ويكفي لبن الناقة الحلوب الجماعة من الناس، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة الإسلام، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير؛ ولهذا ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه) قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ قال: (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) رواه البخاري. وحاصل القول في الآية أن كل فساد يقع في الأرض سببه الانحراف عن أمر الله، وسببه الشرك والكفر، وأن الفساد عذاب جعله الله ليدرك الإنسان خطأه في السير على غير هدى من الله والشرك به، ومن عرف عالمنا ومآسيه أدرك حاجة الإنسان إلى الإسلام، وأن الشرك والمعاصي يترتب عنهما فساد عريض في الحياة البشرية، وأن في ذلك عذاباً للإنسان، وأن الشرك والمعاصي بهما يستحق الإنسان عذاب الله، وأن انتشار الفواحش والآثام في البلاد ينعكس على أهلها بفساد الأحوال، الأمر الذي يتطلب منهم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليرفع الله عنهم بذلك ما أصابهم.