لم يعتد المغاربة منذ أول حكومة بعد الاستقلال إلا على خطابات سياسية من قبيل "العام زين" "مستقبل مشرق" "إصلاحات طموحة"... فالسياسيون المغاربة الذين تقلدوا مناصب الحكم كانوا يفضلون خطاب التطمين والتعتيم، ليبقى المواطن متعلقا بشعارات وإصلاح بعيد كل البعد عن حقيقته. فمنهجية التحفظ التي حكمت الممارسة السياسية منذ عقود أبعدت النخبة السياسية عن المواطنين وعقدت من عملية التواصل، فبرز وضع مقلوب شكلت فيه الدولة العميقة قاعدة كبيرة من الأتباع على حساب العملية الديمقراطية، مما جعل الخطاب السياسي أشبه ما يكون بصندوق أسود لا علاقة له باهتمامات عامة المواطنين. ولم يتمكن المشهد السياسي من تكسير تلك القواعد إلا مع رئيس الحكومة الجديدة السيد عبد الإله بنكيران الذي بشر منذ البداية بنهج جديد مغاير لأسلافه، ففي كثير من المناسبات نجده يردد جملته الشهيرة " الإصلاح بالتدرج" وهذا راجع عند البحث إلى الخلفية الفكرية التي تأطر توجهاته، فهو شخص قادم من مدرسة حركة إسلامية تعتبر من أرقى نماذج الحركات الإسلامية في العالم العربي، فحركة التوحيد والإصلاح تعتبر الإصلاح بالتدرج قاعدة ذهبية واستراتيجية في عملها. إذن فرئيس الحكومة عند حديثه عن التدرج فهو لا يخرج عن قناعاته التي تربى عليها، وهذه للإنصاف نقطة قوة تحسب له، نظرا لكون المشهد السياسي المغربي عانى وما زال من تناقض السياسيين في برامجهم وقناعاتهم. موقع المواطن المغربي من الخطاب السياسي الحالي. وإذا كان رئيس الحكومة بفلسفته الخطابية الجديدة قد خلق نوعا من الديناميكية والتجدد على المشهد السياسي، فإن ذلك في نظر المواطن يبقى بعيدا عن أولوياته، طالما أن الخطاب السائد هو خطاب إرادات إصلاح وجدية النيات وتوافق المكونات والتشارك و...الخ. فالمواطن الآن يحتاج إلى ملامسة خطاب الإصلاح المبني على برامج حقيقية، وليس مجرد إرادات، إذ أن الواقع القريب يوضح أن الانتخابات كانت تفرز أشخاصا وليس برامج، وهو ما كان يتجلى عند وصول الأحزاب إلى الحكومة، لكن وبفعل تداخل التغيرات الدولية والعربية ووصول تأثيرها إلى الساحة المغربية بدأ المواطن المغربي يتلمس طريقه في فهم المشهد السياسي على طريقته، حيث أصبح أكثر اقتناعا بمبدأ ربط الصوت الانتخابي بالخطاب السياسي الأكثر قربا من مصالحه. فإعادة صياغة الخطاب وجعل محوره يتمركز حول مصلحة المواطن هو ما يشجع بنشر ثقافة ديمقراطية هي أحوج ما يتوقف عليه المشهد السياسي في الوقت الراهن، فليس كل خطاب يبشر بالخبز هو مصدر استقطاب، وإنما تمرير الخطابات على شكل خطوات إصلاحية حقيقية كفيل بإعادة المصداقية والثقة إلى الفاعلين السياسيين. إذ أن المتتبع لما يحدث في الحقل السياسي اليوم لا يشعر بالاطمئنان حول مستقبل الإصلاح المأمول من هذه التجربة الحكومية، فهناك أطراف مستعدة لبيع مستقبل البلاد مقابل شراء منصب أو توسيع تجارة، وهذا ما أكده الباحث خالد الرحموني في مقاله المعنون ب" الممكن السياسي في المرحلة : بين منطق المفاوضة السياسية، وحماية قضية الإصلاح الديمقراطي" إضافة إلى أن الحقل السياسي الحزبي الحالي يعاني من أزمة بنية تكمن في ضعف المؤسسات الداخلية والهشاشة الديمقراطية وبطئ عملية التجدد العضوي، وهذا معطى خطير سيتحول إلى عامل إعاقة في مسار الإصلاح ونشر ثقافة الديمقراطية بين المواطنين. فلا شك إذن من أن عودة المواطن إلى الفعل السياسي الإيجابي رهين بضرورة فهم النخبة السياسية لخطورة المرحلة القادمة، وكذلك بجعل المواطن مركز الإصلاح وعنصرا مشاركا فيه، فما تطلبه الجماهير الآن هو دولة ديمقراطية تقوم بخدمته وتكون على رأس الهرم وليس العكس.