في كل مرة أجلس فيها وحيدا في ركن غرفتي المتواضعة تسرح بي ذاكرتي الى زمن مضى، الى مرحلة الطفولة حيث البراءة تكسو كل تصرفاتنا وافكارنا. استرجع الذكريات، أبتسم لبعضها ويشدني الحنين لها وينتابني الفضول لأخرى لأحاول بعد ذلك تحليلها واستنباط ما يمكن استنباطه بعد التدقيق في فهمها. أجد نفسي اليوم استرجع ذكريات حفظي لنشيدنا الوطني الذي كان صداه غريبا على أفئدتنا الصغيرة، صدى كله حماس وحب اتجاه هذه الكلمات التي لم يكن يؤثر فينا غير كيفية تلحينها دون فهم معناها. الآن اختلفت الأمور وأصبح فهم تلك الكلمات يولد في نفسي نوعا من الاستغراب لما أصادفه من تناقض بين المعنى وحقيقة الواقع، الشيء الذي يدفعني للاستفسار حول المغزى من حركة وضع اليد اليمنى على القلب وترديد كلمات لا نؤمن حتى بمعانيها المضمورة. لعل واحدا من مغنيي الراب ببلادنا والملقب ب "الحاقد" يصْدقني القول حين أتى في أحد أغانيه بما مضمونه "منبت الاحرار في النشيد مجرد كلمة، ومشرق الانوار بالنسبة لي مجرد حلم". فإذا كان الفتى يهب ليلبي نداء الوطن بروحه وبجسده للسعي به نحو العلى، كيف إذن أصبحنا نتذيل الترتيب في مختلف المجالات؟ أم هي كلمات تقال وكفى؟ أخدني التيار لأتذكر ما جاء في إحدى الخطابات الملكية، أنه على كل مواطن مغربي أن يفتخر بمغربيته، فراحت كلمات على غرار "الوطن، الوطنية، المواطنة، روح المواطنة، تامغرابيت فالدم،..." تتراقص هنا وهناك في مخيلتي، وأول سؤال استوقفني هو "كيف أثبت مغربيتي وحبي لوطني؟" ليس بالقول بل بالفعل، إذ نرى كل يوم مغاربة ينطقون ويعبرون على حبهم لوطنهم في حين أن أفعالهم تشير إلى عكس ذلك تماما، فتراهم يلقون بأكياس القمامة في كل مكان، يتواصلون فيما بينهم بالكلام الفاحش، يغضون الطرف عن تربية أولادهم علما أنهم عماد الوطن ورقيه برقي أخلاقهم ودرجة علمهم، يقدمون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة فلا اعتبار للجار ولا لصاحب محل يدفع ما يدفع من ضرائب وفاتورات ليأتي آخر بعربته المجرورة الغير المتبوعة بالضرائب ويجعل له مكانا أمام صاحب المحل دون الحديث عن موضع ايقاف العربة التي توضع في الطريق معرقلا بذلك لحركة السير. يهان دائما المسؤولون عن جهاز تسيير الدولة ويُحملون كامل المسؤولية فيما يتعلق بهضم حقوق الشعب متغافلين عن أكل الشعب لحقوق بعضهم البعض، سمسارُ شقق هنا يستغل نية وسذاجة أحدهم ليفوتها له بثمن بهيض وأرباب سيارات أجرة هناك يثقلون كاهل مواطن بسيط بثمن التوصيلة وأرباب حافلات لا يتوانون في امتصاص جيوب البسطاء خاصة في المناسبات... إلى غيرها من المظاهر التي يندى لها الجبين والأسطر هنا لاتسع لذكرها كلها إنما ذكرت بعضها لمجرد تسليط الضوء على السبب الرئيسي فيما وصلنا إليه من ركود وانحطاط. لم أشر للحكومة ولا المسؤولين لأن مكمن الداء يجب أن يُستأصل من الجذور وليس من الأغصان، فبتر الغصن السيء لا يقوي الشجرة إذا كان المشكل من فساد جدورها. فالسير للعلى مرتبط بتنشئة أجيال على روح المواطنة الحقة التي تستمد اشعاعها من أخلاق الجيل ووعي الفكر ورقي الأفعال. من هذا الجيل سينتخب الحُكام ليُرتقى بالحكامة في تسيير أمور البلاد، فبدون ثورة فكرية نجاح الثورات الإقتصادية والتعليمية والسياسية...الخ أشبه بالمستحيل.