يبدو أن التعديل الدستوري الذي تم إنجازه سنة 2011 لم يتمكن بصفة كلية من الحسم في الاختيار الهوياتي للمغرب. ودليل ذلك يتجلى في العودة القوية للنقاش حول الهوية الوطنية بعد طرح بعض التيارات السياسية لمصطلح «تامغرابيت» كاختيار هوياتي جديد. فكيف تم اجتراح هذا المصطلح إذن؟ وكيف كانت تمظهرات تلقيه من مختلف الحساسيات السياسية؟ وما هي دفوعات كل حساسية على أطروحتها؟ قول في مفهوم الهوية وتقاطعاته اللغوية حتى نتمكن من مقاربة أطروحة «تامغريبيت» في سياق النقاش الدائر حاليا حول الهوية الوطنية، يجدر بنا أولا أن نجري بعض الحفريات اللغوية على بعض المفاهيم المركزية في هذا النقاش، لا سيما مفاهيم «الهوية» و«الغيرية» و«الأَنَوية». وضمن هذا الرهان يخبرنا «علم التأثيل» أن لفظة «الهوية» طارئة على اللسان العربي، وبناؤها في السياق التداولي العربي إنما تم عن طريق تكرار لفظي للضمير المنفصل «هو/id» الذي تبدأ به لفظة «identitas» اللاتينية، وهي لفظة مشتقة بدورها من كلمة «idem» التي تعني «الشيء نفسه». تبعا لذلك، أصبح مصطلح الهوية – في دلالته اللغوية الصرفة – يحيل على ذلك التطابق المشحون بالسكون والثبات بين الشيء وذاته، أي إلى ما يجعل الشيء هو هو بالمعنى الذي يفيد كونه مطابقا لذاته في الزمان والمكان. ومصطلح الهوية في هذا المستوى يقدم نفسه كنقيض لمصطلح «الغيرية» الذي يعود في الأصل إلى الكلمة الإغريقية «alterity» والكلمة اللاتينية «alteritas» الدالتين على الاختلاف عن الآخر بوصفه بديلا ثقافيا للأنا أو الهوية الذاتية / الأَنَوِيَة. أما مصطلح الأَنَوية فمشتق من الضمير المنفصل «أنا»، تماما كما هو الشأن بالنسبة لمقابله في اللغة اللاتينية «ipseity» المشتق بدوره من الضمير المكثف «ipse» الذي يقابله في العربية لفظ «الذات» وفي الإنجليزية «self» وكذا «soi» في اللغة الفرنسية. وهو ما يفيد أن الأنوية هي إحساس جماعة ثقافية أو إثنية ما بأناها الجمعية في تمايزها مع غيرها من الجماعات الأخرى. «تامغريبيت» .. قول في سياقات الإنتاج رغم أن لفظة «تامغريبيت» لفظة قديمة في التداول اليومي للمغاربة للدلالة على خصوصية الشخصية المغربية، أي إلى الهوية المغربية بمعنى من المعاني. فإن توظيفها سياسيا ارتبط أولا بمفهوم «المغربة» الذي اختطه المغرب بعيد الاستقلال للتخلص من الإرث الكولونيالي الفرنسي، لا سيما على مستوى الموارد البشرية المتحكمة في الإدارة. غير أن هذه النسخة الأولية لمفهوم «تامغرابيت» لم تكن تعني شيئا آخر سوى التعريب، أي الهوية العربية للمغرب. بعد ذلك، وأمام القوة الترافعية التي جسدتها الحركة الامازيغية على امتداد عقود من الزمن، سيعاود مفهوم «تامغرابيت» الظهور على الركح السياسي مع حزب الأصالة والمعاصرة – في طبعته الأولى التي وضع معالمها كل من فؤاد عالي الهمة ثم إلياس العماري – كتصور مجتمعي / هوياتي وكآلية إيديولوجية لتصريف الصراع مع تيار الإسلام السياسي. غير أن الحزب سرعان ما سيتخلى عن هذا الاختيار حين قرر التراجع عن إصدار جريدة ورقية ناطقة باسم الحزب تحت مسمى «تامغرابيت». وضمن هذه السياقات سيبدأ في التشكل تيار مؤمن بخيار «تامغريبيت» من داخل الحركة الأمازيغية نفسها. تيار أسس له مجموعة من المثقفين الأمازيغ الشباب المؤمنين بخيار تأسيس حزب مغربي بمرجعية أمازيغية، على أساس منظور مغاير لمفهوم «تامغرابيت» قائم على الاعتراف بمختلف روافد الهوية الوطنية الموحدة وإدماجها كعناصر متفاعلة ومنصهرة في بوتقة الجوهر الأمازيغي الثابت للهوية. فجعلوا من هذا المفهوم شعارا لمشروعهم السياسي ثم بعد ذلك اسما لحركة مدنية موازية. آخر المبادرات التي وظفت هذا المفهوم كان وراءها أعضاء من حزب التجمع الوطني للأحرار الذين أعلنوا عن الشروع في تأسيس جمعية تحت مسمى تكتل تامغربيت للإلتقائيات المواطنة. مبادرة عرفت هذا مفهوم «تامغرابيت» بكونه «منطقا للتفاعل بين جميع المكونات المشكلة للثقافة والهوية المغربية بغاية تجاوز ما أسمته منطق التجزيء في التعاطي مع القضايا الثقافية والهوياتية». «تامغريبيت» .. قول في مسارات التلقي كشفت مسارات تلقي هذا المفهوم، بوصفه مشروعا هوياتيا مطروحا للنقاش، عن تباين شديد في ردود الفعل إزاءه بين رافض له مطلقا ومؤمن به مطلقا ومشكك في النوايا والخلفيات السياسية والإيديولوجية الكامنة وراء تسويقه. إذا كان مجترحوا هذا المشروع الهوياتي يسعون جاهدين لتسويقه، فإن تيارا القومية العربية والإسلام السياسي كانا في طليعة رافضيه. وتبرير عملية الرفض لديهما مسنودة بالخلفية الإيديولوجية المؤطرة لكليهما أولا ولطبيعة نظرتهما لمفهوم الدولة الوطنية ثانيا. فما دام دعاة الإسلام السياسي ينظرون إلى الدولة الوطنية بوصفها مرحلة تاريخية يفترض بهم تجاوزها نحو تحقيق دولة «الخلافة الإسلامية» على طول محور طنجة / جاكرتا، فإن تحقيق هذا الرهان لن يتم سوى بالعمل على ترسيخ هوية قوامها «العربية والإسلام» فحسب. نفس الشيء ينطبق على دعاة القومية العربية، مع اختلاف بسيط في اختزال مقوم الهوية في «العروبة» في أفق تحقيق رهان «الوطن العربي» الموعود على طول الجغرافيا الممتدة من المحيط إلى الخليج. اللافت للانتباه في هذا النقاش الهوياتي، هو حصول انقسام ملحوظ – ولأول مرة – في صفوف الحساسيات المشكلة للحركة الأمازيغية. انقسام بين مؤيد لأطروحة «تامغرابيت» وبين رافض لها بالإطلاق وبين طرف ثالث مؤمن بهذا المفهوم / الخيار مع بعض التحفظ. المؤيدون من غير اعتراض حاججوا على موقفهم بأن «تامغرابيت» ليست في الواقع سوى تجسيدا فعليا للهوية الأمازيغية للمغرب، أما المعارضون على الإطلاق فدفعهم في ذلك أن هذا المفهوم المستجد إنما يسعى إلى تذويب الهوية الأمازيغية وتفكيكها، ليبقى مصدر الشك لدى المشككين في طبيعة حاملي هذا المشروع وليس في المشروع نفسه. قول في المقاربة الدستورية للهوية الوطنية كي نتمكن من تشكيل صورة حقيقية – أو على الأقل صورة مكتملة وموضوعية – عن مشروع «تامغرابيت» وفهم سياقاته ورهاناته، يتوجب علينا مساءلة الوضع الراهن للهوية الوطنية على ضوء السيرورة التاريخية التي أفرزته. والمدخل إلى تحقيق هذا الرهان المعرفي يكمن في استنطاق الوثيقة الدستورية. نطالع في تصدير الدستور الحالي أن المملكة متشبثة «بصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية». وتفيد هذه الفقرة أن المشرع قد ميز في الهوية الوطنية الموحدة للمملكة بين المكونات والروافد، ومعلوم أن المكون أصلب وأمتن وأعم من الرافد. فعدد المكونات في أربع هي «العربية – الإسلامية – الأمازيغية – الحسانية»، فيما عدد الروافد في أربع أيضا وهي «الإفريقية – الأندلسية – العبرية – المتوسطية». غير أن المشرع الدستوري وإن كان موفقا، بمقتضى هذا التوجه الجديد، من تجاوز المقاربة الأحادية والاختزالية التي طبعت التناول الدستوري القديم لإشكال الهوية الوطنية منذ القانون الأساسي للمملكة المعتمد سنة 1961 مرورا بدساتير 1962 و1970 و1972 والتعديلات المدخلة عليه سنوات 1980 و1992 و1996، فإنه رغم ذلك وقع في نوع من التعويم المعيب للهوية الوطنية عبر إقحام بعض الروافد ضمن دائرة المكونات. فإذا كان مقصود المشرع بلفظة المكون هو جوهر الهوية وماهيتها، فإن هذا الجوهر الثابت عبر التاريخ هو الأمازيغية وحدها، فيما تنتصب العربية والإسلام والحسانية كروافد أغنت هذه الهوية جنبا إلى جنب مع الروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. وهو ما يشكل نكوصا أملته المنازعات الإيديولوجية حتى عن منطوق التصور الملكي لمركزية الأمازيغية في الاختيار الهوياتي الجديد للبلاد، وهو التصور الذي عبر عنه خطاب تاسع مارس 2011 الداعي إلى «التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها اللغة الأمازيغية كرصيد لجميع المغاربة». «تامغرابيت» .. قول في سوء الفهم الكبير بناء على ما سلف، يمكننا الخلوص فيما يشبه استنتاجا عاما، أن المغرب قد قطع أشواطا كبرى في المسار المستمر لتشكيل وإعادة تشكيل هويته الوطنية. ويكفينا استدلالا على هذا الأمر، قدرة البلاد على القطع مع الأطروحة الرسمية السابقة التي كانت تختزل الهوية الوطنية في العروبة والإسلام وتقصي جوهر هذه الهوية وماهيتها. يبدو أن المؤاخذات المسجلة على الأطروحة الرسمية للهوية الوطنية من جهة، وتعاظم حجم التحديات التي تواجه المغرب، إقليميا ودوليا، من جهة ثانية، قد سرعا بإعادة فتح نقاش الإشكال الهوياتي من بوابة مشروع «تامغرابيت» وإن بصورة غير رسمية. لكن يبدو أن هذا المشروع قد اعتراه سوء فهم كبير يمكن تحديد ملامحه في الخدوش التي أصابت مصداقية بعض الأطراف التي انتصبت لتسويقه أولا، ولضبابية الطريقة التي يتم تسويقه بها ثانيا. فمشروع «تامغرابيت» كخيار جديد ومحتمل لبلادنا يعتبر علامة فارقة في مسار المصالحة مع الذات إذا ما استجاب للشروط الثلاثة التالية: أولا: أي مشروع يرمي إلى إعادة تشكيل الهوية الوطنية ملزم بالتخلص من المقاربات التي تقوقع مفهوم الهوية نفسه في بعدي الثبات والسكون واستبدالهما بمقاربة تعترف بديناميات الهوية في مجتمع تعددي من جهة، ومن جهة ثانية في عالم معولم للثقافة، وذلك بالاستناد إلى مبدأ الغيرية عوضا عن التقوقع في حدود ما يتيحه مبدأ الأنوية. ثانيا: ضرورة ربط هذا المشروع بإصلاح دستوري يمس التصور النهائي لإشكاليات الهوية الوطنية، من حيث وحدة ماهيتها وجوهرها الأمازيغيين وتعدد روافدها المتفاعلة والمغنية لها. ثالثا: يجب أن يكون هذا المشروع ورشا وطنيا تشرف على إطلاقه أعلى سلطة في البلاد، وذلك قصد إكسابه المصداقية والجدية وتحصينه من أي استغلال سياسوي ضيق.