لازلت أذكر، وأنا طفلة يانعة، من مدينة آسفي بحي السلام، في السابعة والنصف أو الثامنة من عمري، واقعة بشعة اشمأز لها خاطري، جرحت مشاعري، وكان لوقعها في أعماقي أثرا بليغا. لاتزال اليوم تلك الفاجعة، وكانت هي الأولى من نوعها، تلتها من بعد، لسوء الحظ، مصائب أخرى بنفس الحدة، تخدش للآن عواطفي، تهز مشاعري، تؤلمني إلى حد كبير، وأتأسف، أشد الأسف، على طفولتي، التي ضاعت مني. تلك الطفولة التعيسة، التي حرمت من حنان أم نرجسية، كانت تحتضن نفسها أكثر مما تحتضن أبناءها، وخاصة تلك البنت الشقية الوحيدة بين إخوتها الثلاثة، لدرجة أنني أكره تلك الفترة المشؤومة من حياتي. أكرهها لأنها كانت باستمرار عبارة عن شقاء ومعاناة. أشعر الآن وأنا امرأة، في كامل قواي العقلية، أنني قلما استمتعت، مثل فتيات عمري، بطفولتي، كنت دائما أعامل في المنزل، من طرف أمي خاصة - وحتى أبي، في الواقع، لم يكن أفضل حالا - كبنت أكبر من سنها بكثير. فكنت دائما أقوم بجميع الأعمال المنزلية كالخادمة، وذلك بعلم الجميع، وبموافقة ضمنية من الجميع، ورسخت في ذهني وفي تصرفاتي تلك الأفعال والسلوكات، إلى درجة أنها أصبحت أمورا داخلية، طبيعية في حياتي، ولطالما اشتقت لأن أكون فقط، مثل قريناتي، ألعب وأمرح، أقفز وأجري، ولا أبالي. ومرة وأنا في ظرف اعتدائي، بغيض، على انفراد مع جار دميم، عديم الأخلاق، لم أكن لحظتها أملك الجرأة لا لأدافع عن نفسي، ولا لأصرخ بكل قوة، ولا لأبوح بما جرى لي لوالدي، وخاصة لتلك الأم المتغيبة، الهائمة، وغير المكترثة تماما، عطفا وأمومة، بشؤون أسرتها. أما أبي فكان يستهلك جل أوقاته في عمله والباقي يسرفه، حتى الليل، في أمور أخرى ممقوتة، لأن طبيعة التربية والمعاملات داخل المنزل وخارجه، وبين أفراد الأسرة، وآثار كل هذه الحالات والظروف على الناشئة، إيجابية أم سلبية، كانت وما تزال تلعب دورا أساسيا في كل الأوساط: قروية أم حضرية، غنية أم فقيرة، مغربية أم أجنبية. كنت أتردد إلى منزل جارتنا بالقرب من دارنا بحي السلام لألعب مع إبنتهم آمنة. كانت آمنة طفلة جميلة من أسرة بسيطة مثلي تماما، وكنا نلعب، نلهو ونمرح ساعات غير مباليتين، بالاهتمامات اليومية، ساعات فرح محدودة بالنسبة لي خارج منزلنا وفي غياب أمي، وكأنني أملأ فراغا بداخلي، رؤوسنا وأدهاننا مليئة، مثل كل الفتيات الصغيرات في أعمارنا، بالأحلام والأشياء الجميلة. وذات يوم، خلال غياب أمي، طرقت باب جارتنا كعادتي، كلما غابت، ولم يكن غيابها نادرا، وكان الفراغ بقدر غيابها، لألعب مع صديقتي، فإذا بي فوجئت عندما فتح أبوها الباب قائلا: "أدخلي يا ابنتي". مسكني من يدي اليمنى وصار بي اتجاه البهو حيث كانت هناك طاولة مستديرة: "جئت لتلعبي مع آمنة؟" مرددا بصوت خشن، "نعم!" مجيبة بخجل، "خرجت لغرض، إنها قادمة توا!" مواصلا بمليء صوته. شالني من إبطي ورمى بي واقفة على الطاولة، لأعادله طولا، أدركت لحظتها أن لا وجود لأحد في الدار سوى هو، وأن الخسيس عازم على القيام اتجاهي بأشياء غير محمودة! وصار فعلا يلامسني بشراسة في كل جسمي، بيديه الغليظتين الفظتين، ويقبلني بلهفة في فمي، في عنقي، في خذي، وهو يردد "جميلة أنت! لطيفة أنت! ستكونين امرأة جميلة!". لم أستطع التخلص من قبضة ذلك الوحش المفترس، لم أصرخ، ولم أعرف الآن لماذا لم أصرخ، أضن خوفا منه، لكن قاومت بصمت، وزعقت لحظة، وتخبطت لحظات طويلة خيلت لي ساعات، لولا، لحسن الحظ، طرق الباب وصوت ابنته آمنة! فهرولت نحو الباب، واندفعت إلى الخارج مسرعة ولم أبال بآمنة المسكينة التي كانت، ببراءة، ترغب بإلحاح في بقائي معها. ومنذ ذلك الحدث اللعين لم تطأ قدماي تلك الدار المشؤومة. رسخت في دهني، إلى الآن، وأنا امرأة، تلك اللحظة المؤلمة، الكابوسية، رسخت إلى الأبد! وصادفتني، لسوء الحظ، نكبات أخرى فيما بعد، اعترضت سبيلي رغما عني، بل اقتحمت حياتي وصارت طيفا يطاردني ويعذبني باستمرار، وأنا في التاسعة أو العاشرة من عمري أولا، وفي الثالثة عشر ثانيا، بنفس الدرجة والحدة، بشاعة وفظاعة، من سابقتها. تارة معلما عفنا يعطي دروسا خصوصية، جوفاء عفة وأخلاقا، في شقة، من داره الواسعة، خصصها، أضن، على سطح داره، لغاية في نفسه، رذيلة، ويشد بحزم، طويلا، كلما أتيحت له الفرصة، صدر كل طفلة طافحة تظهر من خلال قامتها وجسمها أكثر من عمرها. وكنت أنا كذلك مرارا ضحية من بين ضحايا ذلك الحقير. كنت أكره تلك الدروس، لكن كنت مرغمة من والدي على متابعتها لأنهما لم يكونا على علم بما يجري هناك. ولم يكونا قط على علم بكل ما كان يصيبني، داخليا، من ألم. ولربما تلك الأفعال الخسيسة وتراكمها كانت سببا في انقطاعي باكرا عن الدروس ومغادرة المدرسة نهائيا. كم من طفلة تخلت عن الدراسة، انسحبت، كاتمة لمأساتها، ولا أحد يعرف سبب ذلك الانسحاب! وأخفت سرها للأبد. وتارة أخرى ليلا، وأنا في دارنا، على فراشي نائمة، نوما هادئا، رفعني ابن عمتي فجأة، لم أدرك بماذا ابتليت، أوقفني على الفراش، لأوازن قامته، نفس طريقة العمل الإجرامي، وضمني بين ذراعيه بحرارة، وهو في حالة سكر، تفوح من فمه رائحة الخمر الكرهة، يعانقني، يداعبني، وهو يتمتم ألفاظا خبيثة ويتلعثم في كلامه، ويقبلني وكأني عشيقته، في حين أن أكثر من عشرين سنة تفصل بيني وبين ذلك القذر. حاولت، منتفضة غضبا، إبعاده عني بكل ما لذي من قوة! عجبا! لم أنج من مخالب هؤلاء المفترسين ولو أني في عقر دارنا. أين كنت يا أمي ساعات معاناتي؟ أين كنت يا أبي ساعات ألمي؟ ماذا أتذكر يا أماه! جرحا، ألما، لا أنساه! ماذا أتذكر يا أبتاه؟ الماضي يحمل ضناه، والحاضر تبكي عيناه! لكن، مهما كان، سامحكما الله! لأنكما ربما أنتما كذلك كنتا ضحيتا مجتمع قاس، فظ، عديم الإحساس. كم من طفلة كتمت مصائبها ومعاناتها، وظلت وباتت تلك المصائب وتلك المعاناة والهموم دفينة، تنخر، في داخلها، دفينة، تنهش، في أعماقها، طيلة حياتها، عاشت بها، وماتت بها! رحمة ببناتك يا مجتمع، رحمة بأبنائك يا وطن! إليك يا صبية هذه الكلمات، إليك يا ضحية عطفي وتفكيري، وأشاطرك بأسى شديد ألمك من كل أعماقي. تجندي بعزمك وبقوتك كما عاهدتهما فيك! وانزعي الآن من داخلك تلك الكوابيس والصدمات، التي طالما أنهكت قواك وأرهقتك نفسانيا أعواما، وذهبي طليقة حرة، واثقة من نفسك! كلك حسنا وجمالا. وأنت كذلك أيتها المرأة المكدومة، المظلومة، والمعنفة، لا لشيء، سوى لجمالها، والكاتمة لسرها عمرا، ضحية هذه الأفعال والتصرفات الرذيلة، لا تنغلقي عن نفسك! لا تصمتي! لا تخجلي من كشفها! اصرخي! انفجري! عبري، وبصوت عال، عما يتأجج في داخلك من ذكريات أليمة، والشعور الدفين بالظلم كلما اندلعت تلك المشاهد في مخيلتك، فارضة نفسها عليك، تحرري منها، ومن تلك الصدمات التي لم يكن لك ذنبا فيها.