في سياق الدردشة العادية التي يقطع بها الحرفيون والمهنيون صمت الركود، وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع أبناء تاجر مختص في بيع العقاقير، قادنا الكلام إلى قصة هادفة من قصصي في عالم التجارة، استحضرَها الأخدُ والرد، والنبشُ في الذاكرة، وأمورٌ شتّى منها صراع الأفكار. وتتمحور وقائع القصة حول الهدية في غلاف الصدقة أو كما يسميها البعض ب"الحلاوة"، ويدرجها بعضٌ آخر ضمن مرادفات العطية بنية المكافأة. فقد كان والدي رحمة الله عليه حريصا على أن نتقيّد بجملة من القواعد في تدبير أمور تجارتنا، ومن بين هاته القواعد واحدة تتعلق بالهدية، موضوعُ قصتنا اليوم. وتتمثل في رصد الورقة النقدية من فئة عشرة دراهم، عبارة عن إكرامية، نمسح بها على يد كل سائق شاحنة أو مَركبة، سواء أفرغ شحنة أو شحن بضاعة، على اعتباره حلقةً في سلسلة التوزيع والإمداد بين المزودين والتجار. كما هو الحال والمثال أيضا مع كل سائق شخصي يرافق زبونا، قصَدَ محلنا بغاية التبضع، وكذلك نفعل مع كل موظف عمومي مِثل ساعي البريد، كلما سعَى إلينا يحمل بشارة، والحبل على الجرار، نَصلُ به مَن يصلنا، لتشمل الهدية كل من يسدي لنا خدمة أو ينجز لنا عملا بحسن نية وصفاء سريرة.
ربما يرى البعض أن في باطن هاته القاعدة ما يمكن اعتباره بشكل من الأشكال وسيلةً من وسائل فنون التسويق، وأنّ الوالد كان يهدف من ورائها إلى الترويج لمحلنا التجاري، لا أكثر. وهذا أمر طبيعي، حتى ولو سلمنا به، سيما وأنه حق مشروع، لا لُبس فيه ظاهرا. ولكن الحقيقة أن ما خفي كان أعظم، يلُفّه الستر الشرعي. والشاهد أن الجانب الإنساني والخيري كان واسعا بما فيه الكفاية، ويزيد. فلم يكن مقتصرا على هاته الشريحة دون المحتاجين! بالإضافة إلى أن الموضوع كما عايشتُه، واقتنعتُ به، ثم طبقتُه، كان بدافع جلب البركة لمضاعفة الرزق ودوام النعم، كي لا تغيب عن تجارتنا بالدرجة الأولى، وخصوصا منها بركة الصدقة، التي كان الوالد لا ينفك يُشبّهُها بالصواريخ المضادة للمصائب! وهو الرصين الرزين كما نحسبه، الراصِنُ والثابتُ في إيمانه، أنّ ما من صدقة تنقصُ من مال، إذا لم تزد فيه، حفظته من الزوال، وكذلك حصل فعلا، لا مجرد أقوال.
الحاصل في القصة أن سائقا مهنيا كان يشتغل لدى مقاولة تجارية ناشئة، وكان لإسم مالِك المقاولة ونشاطها حديثِ الملامح ومكان تواجدها الإستراتيجي وقع كبير في السوق آنذاك! وكما جرت عليه العادة، والتزاما بالقاعدة، كنت عند إتمام أي معاملة تجارية مع المقاولة إياها، من خلال هذا السائق، أناوله مبلغ العشرة دراهم كعربون إخلاص لوصية الوالد! إلى أن جائني ذات يوم شاحب الوجه، فطلب مني الحديث عن انفراد، بل وفي سرية تامة!
أسرّ إليّ في مقدمة القول أن العشرة دراهم التي كان يتحصل عليها نظيرَ كل عملية تسوق من محلنا، كانت فريدة من نوعها، بل ومحفزة لكي نكون عند كل رغبة في التسوق وجهتَه الأولى، قبل تحديد باقي الوجهات، وأن غايته اليوم هو تنبيهنا من احتمالية وقوع عملية نصب، تراوده بعض الشكوك أن صاحب المقاولة قد بدأ يخطط لإنجازها! ولهذا يتعين عليّ اليوم رفض بداية التعامل بالشيكات مع هذا الشخص، أيّاً ما كانت ستبدو عليه المغريات! مع واجب التكتم في إطار العهد والتعاهد بيننا. ثم أخرجَ من جيبه ورقة شيك، كان يُفترض بها إنهاء المعاملات النقدية -الطُّعم-! والتمهيد لإدخالنا رويدا رويدا في المتاهة. وبشكل تدريجي! ترتفع المبالغ، وتتضاعف الأرقام معاملة تلوى أخرى! إلى أن يصل موعد الضربة القاضية!
شكرتُ السائق بكل ما أملك من مشاعر المودة والإمتنان، ثم ربطتُ الإتصال بالمقاولة! ولأنّ سلوك البروتوكولات المتفشي بين المجتمعات المتحضرة والطبقات الراقية في مثل هاته الظروف مفروض، ومهم جدا، فقد حجزتني الكاتبة لأكثر من خمسة دقائق على الخط، وأنا أنصتُ لرنات الإستقبال والإنتظار، إلى حين انتهاء الباطرون مما سَيُوحَى إليّ أنه أشغال كثيرة!
ما أن سمعت كلمة "نْعَامْ" بنبرة خاطفة على الخط، عوض "آلو" المتداولة! حتى أجبته بخِفّة البديهية: "أنعَم الله عليك سيدي الحاج"، ثم بادرته بالتعبير عن الإعتذار، ملتمسا ذلك بأدب وحَذر، جاعلا من الوالد العقبة الرئيسية في تسَلّلي الواضح من مربع العمليات! متسلحا بما خَطر على بالي وقتها من تبريرات وحجج، عازما على رفض التعامل معه بالشيكات، ومقدما والدي في أعقد صور التجار المتشددين والمرتابين من أي عملية بيع وشراء خارج نطاق التعامل نقدا!
قاطعني الرجل قبل إنهاء مرافعتي، وراح يغرف من قاموس التعالي شتّى أوصاف ونعوث الإحتقار والتخلف والجهل، ثم أغلق الخط في مسامعي! بعد أن قزّم حجم المبلغ المراد به تدشين عملية نصب الأفخاخ! بل وبخّسه، ووصفه بالهزيل!
لم يكن المبلغ يتعدى مليون سنتيما! وفي جميع الأحوال، كان هذا الشيك سيتم سداده، وسداد ما سيلحق به من شيكات، ولكن مع اكتساب الثقة، تتقلص المدة الفاصلة بين شيك وآخر، وترتفع المبالغ، ثم تتراكم بلا قيمة تُذكر، وبدون رصيد عند السحب! وبعدها ينطلق مسلسل الضياع! يليه عَزف الجينريك الحزين، ثم تبرز على الشاشة بالبنط العريض عبارة النهاية!
غاب السائق عن الأنظار، ولكنني بقيت بعد ذلك لشهور أتابع الأخبار من بعيد، إلى أن انفجرت عملية النصب في السوق بشكل مدوّي! حينها تأكدت يقينا، أن تلك العشرة دراهم، وما تلاها على درب الإنفاق من إكراميات وصدقات، قد حالت دون أن نكون ضمن الضحايا! وأنها لم تنقص من رأس مالنا، ولا أخَلّت بميزان أرباحنا، ما يمكن أن يثير الشبهات فحسب، بل جنّبتنا خسارة كارثية! ورَدّت عنا مصيبة عظمى!
أما الوالد رحمة الله عليه فقد قضى ما تبقّى له من العمر، ملتزما بما آمن به، لا ينفك يعِظُنا، ويُخضعنا لإختبارات التدرج في الحياة. استوعبنا ما أمكَنَنا استيعابُه، تارة بالدليل القاطع، وتارة أخرى بعقل تلكُم المرحلة. كما لبثَ ما لبث لغزا في الأذهان، مع التقدم في السن، تُطالعنا من حين إلى آخر تجاربُ العمر وخبراتُ الزمن على أساليب فكّه! إنتهت الحكاية، وبَقيَت في قلوبنا الكلماتُ، دروسا وعبرا حيّة، رغم آلام الفراق والرحيل!