رغم أنني مسلمة، ذلك الإسلام البسيط المبسط كما اعتنقه الأجداد منذ قرون، الذي لا ينظوي تحت لواء حزب ولا جماعة، ولا يفرق المسلمين إلى فرق وشيع وجماعات كما هو حال الأمة الإسلامية الآن، فقط، ذلك الإسلام الذي ينبني على قيم العدل والتسامح والأخوة والإيثار والالتحام، فلا يشق عصا طاعة ولا يدعو إلى الخروج على أولي الأمر، هو ديني الذي يأمرني بأن أعبد الله ولا أشرك به شيئا وأقيم الصلاة المكتوبة وأؤتي الزكاة المفروضة وأصوم رمضان وأحج بيت الله الحرام متى استطعت إليه سبيلا، ذلك هو ديني الذي ورثته عن آبائي، ويشكل نسيج ثقافتي وهويتي. ورغم أنني لا أمقت من الدين إلا من يشدده ويعسره، ولا أنشد منه إلا سماحته و يسره وتعاليمه المنبنية على العقائد والمعاملات، بيانا لأحكامه السهلة السمحة، وتحبيبا لمن لا يعرفه فيه، وإفحاما لمن يخوفون الناس منه، فأبتعد عن كل ما من شأنه أن يوسع الهوة بين المسلمين من الدين الواحد، ويشتت وحدتهم، وأتمسك بما يجمعهم ويقوي كلمتهم أليس الحق سبحانه. قال: (يريد الله بكم اليُسر ولا يريدُ بكم العُسر) البقرة:185 وقال أيضا: (لا نكلف نفسا إلا وسعها، ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) المؤمنون: 62 ثم أنني، أعتقد دائما بأن الله وحده يزكي من يشاء من عباده، ويُرقي من يشاء ويفضل بعضا على بعض، ويرفع من يشاء من عباده درجات، حيث يدرك وحده الحكمة من ذلك، لأنه عز وجل من عظمته يعلم خائنة الأعين وما تخفيه الصدور. إلا أنني اليوم أجد نفسي دالفة على أعتاب جماعة إسلامية، ظللت أجهل أكثر مما أعلم عنها وعن نظامها، ومبادئها، وتوجهاتها... كيف لا وهي الجماعة المكممة الفيه المحاصرة السجينة. اليوم وبعد أن انتقل إلى دار الحق زعيم جماعة "العدل والإحسان" الشيخ عبد السلام ياسين تغمده الله بواسع الرحمة والمغفرة، اندلق المداد من محابره، ومزق الكُتّاب غشاء الصمت في داخل الوطن وخارجه، وصدحت الحناجر بما فيها متحدّية قبضة النار والحديد التي أُمْسِكتْ بها من سنين، لعل أحدهم يوفيه حقه، فأسهبوا في ذكر فضائله، وتوضحت الصورة، صورة الحق، ولم يجد العديد من الكُتّاب بد من ذكر ما خفى وما ظهر في مسيرة الشيخ الإيمانه القوية بالله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. جل من تحدث عن الشيخ ياسين تحدث عن رجل مؤمن رباني، غرف من منابع الفقه والحديث، فعرف طريق الله وبنى منهاجه على كلمة الحق، امتاز بمواقفه الشهمة في سبيل ما آمن به، سُجن وعُذّب، وحوصر، لكنه لم يخضع إلا لسلطان قناعاته، صلابة موقف قلما نجدها في المشهد السياسي المغربي... لا تضاهيها إلا تلك التي حولته من ميدان التربية والتعليم إلى قائد له موقف من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والمبادئية. فحركته الإسلامية لم تعتمد على العنف، ولم تُسَجّل أبدا في سجل الإرهاب الدولي، ولم تطالب بتطبيق الشريعة بالعنف، ولم تحمل سلاحا ضد أمن الدولة ولم تخلق بلبلة، بل كانت جماعة إصلاحية ساندت تحركات الشباب للمطالبة بالإصلاحات (حركة 20 فبراير) وانتزعت بالفعل إصلاحات دستورية... الرجل خلق جماعة مغربية بإمتياز، ذات طابع مغربي لا امتداد له مع المشرق لكن وابتعادا عن (العدل والإحسان) كجماعة، وتقربا من الشيخ عبد السلام ياسين كمرشد مسلم ومفكر ومنظر ومؤلف أثرى الخزانة الوطنية بالعديد من المؤلفات، ومصلح آمن بمبدإ وصدح بها في وجه الحاكم ولم يتنازل عنه لا تحت ضغط سجن ولا حصار ولا تعذيب نفسي، لا يسعني وفي هذا الوقت الأليم من رحيله إلا أن أطوي ركبتاي إلى الأسفل وأحني رأسي احتراما وتقديرا له وأطلب له الرحمة ولسان الحال يردد قوله تعالى: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً" صدق الله العظيم الأحزاب:23 ...