لطالما كانت ظاهرة عزوف الشباب عن العمل النقابي بالمغرب مادة للنقاش على طاولة المثقفين والنقابيين وكذلك مؤسسات الدولة التي انكبت على إعداد دراسات وإحصائيات لقياس عمق الهوة بين الشغيلة والتنظيمات المهنية، كان آخرها التقرير الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2018 الذي شكل صدمة كبيرة لدى المهتمين بالشأن النقابي ببلادنا، فقد جاء في التقرير أن نسبة % 95.7 من الشغيلة النشطة بالبلاد لا تنتمي لأي تنظيم نقابي أو مهني، وتصل نسبة العزوف في الوسط الحضري % 92.9 مقابل %99.2 في الوسط القروي. أرقام صادمة عرت الواقع النقابي المأزوم بالمغرب، الذي لا يمكن حجبه ببعض المسيرات أو الوقفات الإحتجاجية التي تنظمها المركزيات النقابية بين الفينة والأخرى لإثبات حضورها على الساحة الوطنية. يرجع بعض المسؤولين النقابيين ظاهرة العزوف عن العمل النقابي إلى خوف الشغيلة من الطرد من العمل من قبل مشغليهم بسبب انتمائهم النقابي، واختراق أجهزة الدولة للتنظيمات النقابية وخلق انشقاقات في صفوفها مما يؤثر سلبا على آدائها ونجاعتها في تحقيق مطالب الشغيلة والحفاظ على مكتسباتهم. لكنني كرئيس سابق لنقابة مهنية بإحدى المركزيات النقابية أؤكد أن هذا ليس السبب الوحيد، فالمشكل الأساسي هي التنظيمات النقابية ذاتها وما يجري خلف أبوابها الحديدية. تقدم النقابات نفسها على أنها تنظيمات جماهيرية تفتح أبوابها أمام كل فئات الشغيلة مهما كانت توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية، فهل هذه حقيقة أم مجرد شعار يخفي وراءه عقلية إقصائية لكل مخالف في الرأي والفكر والتوجه؟ للإجابة عن هذا السؤال هناك طريق وحيد، وهو أن الإنتماء لإحدى التنظيمات النقابية ثم تجربة الإختلاف معها في أمر من الأمور ( موقف سياسي أو فكري... ) ليتحول المخالف بين عشية وضحاها إلى جسم غريب ينبذه الإطار الذي ينتمي إليه، كما ينبذ الجسد البشري عضوا زُرِع فيه ويتركه يتعفن حتى الموت. فعن أي جماهيرية وأي ديمقراطية نتحدث ؟ المسألة أقرب إلى جمهورية صغيرة، يحكمها مجلس أعلى يسطر السياسات والخطابات، لا يسمح لأحد بمخالفتها أو مناقاشتها، والمطلوب من القواعد فقط هو تمجيد "الزعيم المفدى" على طريقة مسرحية الزعيم لعادل إمام، والتصفيق والإطراء والإشادة والتهليل لإنتصارات وهمية، والتغني بأمجاد الماضي. وأما إن غردت خارج السرب فيتم خوض حرب بالوكالة عليك، يتم فيها توظيف الأبواق وتبدأ حملة التشكيك والتشويه والإتهام دون دليل تمهيدا للفظك خارج التنظيم، تماما كما تفعل الأنظمة القمعية التي تقود الحملات الممنهجة على خصومها لتخوينهم واتهامهم بالعمالة قصد نزع صفة الوطنية عنهم وتفادي أي تعاطف معهم وتبرير أي عمل وحشي أو لا أخلاقي يرتكب ضدهم. ثم بعد هذا تأتي إشكالية الولاء، ولا نقصد هنا الولاء للتنظيم والمبادئ التي قام عليها، بل الولاء لأحد قيادييه والإصطفاف خلفه. فغياب اللحمة داخل التنظيمات النقابية المغربية أمر جلي حتى وإن كانت الصورة التي تسوق للعموم عكس ذلك شأنها شأن الأحزاب السياسية، وانخراط قياداتها في دوامة الإستقطاب ظاهر للعيان مهما كانت الطريقة أو الأسلوب، ويبقى الهدف واحدا هو أن يتمسح المنضم للتنظيم بأهداب أحد القيادات ويدين له بالولاء مقابل دعمه للإرتقاء داخل التنظيم، وبالنتيجة فإن كل طرف يسعى لتوسيع قاعدته وزيادة الموالين له، فنصبح أمام نقابات صغيرة داخل النقابة الواحدة، يسعى كل منها إلى " طحن " الآخر، وهي الصراعات الداخلية المعروفة التي تستنفذ طاقة التنظيمات وتحيد بها عن المعارك الحقيقية، ويتم استبدال التطلعات الجماعية للشغيلة بتطلعات الأفراد "القيادات" وتكون القواعد ذلك الحطب الذي يغذي نار الصراع لبسط السيطرة داخل التنظيم وتأسيس نظام أشبه بالمعبد الذي ينكب عليه المريدون بحثا عن بركة "الآلهة ". إن تحميل مسؤولية عزوف القوى العاملة المغربية عن الإنتماء النقابي ببلادنا للدولة بدعوى الإختراق وتشجيع الفساد داخل التنظيمات النقابية هو هروب إلى الأمام وتملص من المسؤولية، فمن يمارس ذلك الفساد هم أصحاب القرار في التنظيم النقابي، وهم المستفيدون من الريع النقابي وليس أجهزة الدولة، وإن كان هناك اختراق وشق للصف واللحمة فتلك القيادات هي التي تخوضه وتأججه كل يوم. المسألة بسيطة جدا، لا تريد شق الصف، تصالح، لا تريد الفساد، حاربه، لا تريد الريع، ارفضه ولا تستفد منه، أما أن تتصارع على الكعكة وتلوم الخباز الذي قام بإعدادها فهذا منطق لا يقنع أحدا. الحقيقة التي لا يقوى نقابي على التصريح بها علنا هي أن ممارسات الإنتهازيين من النقابيين، الذين يتخذون من العمل النقابي طريقا للإغتناء والحصول على الإمتيازات هي التي تجعل الطبقة الشغيلة تفقد ثقتها في النقابات، تماما كما فقد الشعب المغربي الثقة في طبقته السياسية بمختلف ألوانها ومرجعياتها لنفس السبب، حتى أصبحت كلمة " نضال" تثير النفور والإشمئزاز في نفوس معظم المغاربة، لأنهم يعلمون بكل بساطة أن هذه الكلمة أصبحت مرادفا للريع النقابي والسياسي.
وفي النهاية تبقى إحصائيات مندوبية التخطيط المغربية دليلا على فساد النقابات وليس الدولة. وأرقام عزوف الشغيلة بنسب مهولة عن الإنتماء النقابي ليس من قبيل الأحكام الجاهزة، بل قرار جماعي واعي جاء نتيجة تناقض الخطاب النقابي مع الممارسة، واستغباء عقول المغاربة بتسويق انتصارات وهمية، وتوظيف ملفات الشغيلة المطلبية كورقة للمساومة على المنافع، واستهداف المناضلين الشرفاء الرافضين لهذا الواقع البئيس واستبعادهم مقابل تقريب الإنتهازيين أصحاب المصالح الذين سيصبحون مستقبلا جيلا جديدا من الفاسدين، لندخل مرحلة جديدة من ذات الممارسات القديمة وتستمر محنة العمل النقابي.