في كتابه،"اختلال العالم"، تحدث أمين معلوف، المفكر والأديب اللبناني، عن مجموعة من المواضيع الراهنة، ذات التأثر الماضوي. تحدث عن الحضارات، قديمها وحديثها؛ تحدث عن العرب، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؛ تحدث عن الغرب، أيضا عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؛ تحدث عن العالم الجديد، أو ما سماه هو بالسيد الذي يحكم العالم؛ تحدث عن الأديان؛ تحدث عن الأزمات؛ تحدث عن المناخ والأوبئة.. وتحدث عن الإفرازات التي يمكن أن تنتج جراء الاختلال الحاصل بين هذه الأمور في ما بينها. ولعل من بين أهم الأشياء التي وضع الكاتب الأصبع عليها، ويرى أنها من بين الأسباب الرئيسية وراء الاختلال الذي عرفه ويعرفه العالم العربي والإسلامي، يعود إلى ما سماه هو بالشرعية أو أنواع الشرعية التي عرفتها الأنظمة العربية على مر العصور.
فعلى مدى التاريخ العربي، وإلى الآن، تم تجريب، إن صح التعبير، العديد من أنواع الشرعيات؛ منها ما هو مستمد من الدين، ومنها ما هو وراثي.. وأخيرا عن طريق صناديق الاقتراع بالنسبة للبلدان ذات الأنظمة غير الملكية.
فإذا كانت الشرعية في مفهومها الشامل، المتعارف عليه، تعني منح الحق لجهة ما في ممارسة الحكم، بصرف النظر عن نوع هذا (المنح)، فإنه في نظر الكاتب، الشرعية الوحيدة، الحقيقية، على مر التاريخ العربي، هي التي تمنحها الشعوب.
فلكي تصطف الشعوب، العربية، خاصة، وراء حاكم واحد، فيكون له بذلك شرعية حقيقية، يجب على هذا الحاكم أن يتصف بمجموعة من الصفات.. هذه الصفات، حاول العديد من الحكام العرب، خاصة في الآونة الأخيرة، أن يصطنعونها في شخصياتهم، وعملوا على إظهارها على أرض الواقع، لكنهم لم يفلحوا في ذلك.
إن الكاتب، يورد على سبيل الحصر، أمثلة لشخصيات، تاريخية، عربية، اتحدت حولها الشعوب ورأت فيها المخلّص. والمخلّص في اللغة اللاهوتية، المسيحية، هي تلك الشخصية التي تحوز من القوة ما لا يكون عند غيرها، إذ بواسطتها يمكن للبشرية أن تنجو إلى الخلاص من خطاياها. وخطيئة العرب، من الرباط إلى العراق، وبالنسبة للشعوب المسلمة أيضا، كانت ولا تزال، ذاك الجرح الذي كلما مر عليه الوقت كلما زاد شرخه واستفحلت آلامه.
فجمال عبد الناصر، كما يورد الكاتب، ما كان له أن يحوز شرعية الشعوب العربية قاطبة كتلك التي حازها، والذي لا زال لحد الآن كلما ذكر اسمه أمام البعض إلا وتخشع وحن قلبه إلى زمن ضائع.. لو لم يضع في مخططاته الانتصار للعرب جراء ما حصل لهم سنة 1948 من هزيمة نكراء أدت إلى تهويد القدس واحتلال فلسطين أو ما يسمى ب"النكبة".
فلقد كان عند الأغلب، الخليفة الحقيقي لصلاح الدين الأيوبي. وما كان ليكون هكذا، في نظرهم، لو لم يوهم الناس بهذا التمني الذي ظهر من بعد أنه صعب النوال.
إن جمال عبد الناصر، قد ظل في الحكم لمدة عشرين سنة، عبر انتخابات، يقول الكاتب، أنها كانت غير نزيهة.. لكن على الرغم من ذلك، لا أحد كان يشكك في شرعيته أو يشير له بالبنان حتى. مما يفيد على أن الشرعية التي تمنحها الشعوب للحكام، تتجاوز أي شرعية أخرى. بشرط أن يجعل هذا الحاكم هموم الشعوب واهتماماتها أولى أولياته..
قبل حرب 1967، التي جرت أطوارها بين الدول العربية من جهة، وبين الكيان الصهيوني من جهة أخرى.. كان ملك الأردن، في تلك الفترة، يكن العداء لجمال عبد الناصر. لا لشيء إلا لأن هذا كان يرى في الأنظمة الملكية أنظمة، بالية، مستبدة.. يجب تجاوزها.
وفي الوقت الذي دقت فيه طبول الحرب، وكان جمال عبد الناصر يستعد لهذا النزال، فاجأته الخطوة الجريئة التي أقدم عليها ملك الأردن. فقد تجاوز كل الحزازات ووفد على جمال عبد الناصر ينبئه أنه على استعداد كامل، لوضع كل ما يحوزه من عتاد وجيوش رهن إشارته. ومن هول عظم هذه المفاجأة، أراد جمال عبد الناصر جس ثقة الملك وحسن نيته؛ فاشترط عليه مقابل قبوله ذاك العرض، بأن يكون على رأس جيوش الملك، ضابطا من ضباط عبد الناصر، فوافق الملك دون تردد.
أمين معلوف، وهو يحاول سبر أغوار سلوك ملك الأردن هذا، أشار إلى أن الملك كان يبحث، من وراء هذه الخطوة المفاجأة، عن شيء واحد ووحيد، ألا وهو إثبات شرعيته أمام شعبه والمحافظة عليها، ولو أن عبد الناصر طلب منه أكثر من ما قدمه هو إليه لفعل. فلو لم يشارك الملك في تلك الحرب، حتما كان سيفقد شرعيته، وكان سيؤدي ثمنا أكثر بكثير مما كان سيؤديه إذا ما شارك في الحرب. أما إذا شارك في الحرب، وحصلت الهزيمة، فإنها ستكون نصف هزيمة فقط، لأنه سيخرج فائزا أمام شعبه.
هناك مثال آخر يسوقه الكاتب، أمين معلوف؛ هذا المثال، بقدر ما يخالف المثال الأول، بقدر ما يعكس قيمة الشرعية التي تمنحها الشعوب للحكام، وما يمكن أن يترتب عنها من آثار.
فبينما كان الاستعداد قائم على قدم وساق لتلك الحرب، حرب 1967، ربما أن الدولة الوحيدة التي لم تشارك فيها بشكل رسمي، كانت هي دولة لبنان. هذه الدولة، فضلت الحياد، في حرب جرت معاركها على مقربة منها. وكانت دوافع حيادها هو تفادي ما يمكن أن يترتب عن تلك الحرب، سواء في حالة النصر أو الهزيمة. لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها بين الفريقين المتخاصمين، وانتصر من انتصر، وخاب من خاب، حتى بدت حرب أخرى من نوع آخر، في الدولة التي نأت بنفسها عن الخسارة.
إن الكاتب يقول، وهو لبناني المولد والنشأة، أن لبنان خسرت أضعافا مضاعفة ما كانت ستخسره لو أنها شاركت في تلك الحرب. وما الانشقاق الذي قسم ظهرها، بولادة دولة وسط دولة، والتفجيرات المتتابعة، والاغتيالات.. ليس سوى رد فعل مباشر على فقد شرعية، فُقدت في اللحظة التي تقرر فيها النأي جانبا عن المشاركة في الدفاع عن كرامة الشعوب العربية.
إن ما يحدث اليوم، في العالم العربي، من استبداد وفساد وبؤس وجهل وتخلف.. لا يختلف كثيرا عن ما كانه في الماضي القريب.. ومما لا شك فيه أن الأسباب كثيرة. غير أن ما ورد على لسان الكاتب، أمين معلوف،
في كتابه الموسوم، «اختلال العالم"، في ما خص الشرعية، التي تمنحها الشعوب، يبقى على رأس تلك الأسباب.
فالحاكم، وأي حاكم، كيف ما كانت طبيعة حكمه، إن لم يولي الاهتمام الكامل لأوليات الشعب الذي يكون على رأسه، فإن لا شيء قد يحدث أبدا، غير البؤس والفاقة والتخلف.. عندئذ، سيصبح هذا الحاكم، ينظر للكل بعين الشك والتوجس، وسوف لا يخشى على شيء خشيته على منصبه.. ولأجل ذلك سوف لن يتورع على استعمال كل ما يراه لائقا في سبيل المحافظة على منصبه.
وما الأنظمة البوليسية، والقوانين المشرعة على المقاس.. ليس سوى وجها من وجوه توجس الحكام من فقد مناصبهم.