ارتباطا بالسلسلة التي تم نشرها على مدى الأسابيع الماضية، ليس اكتشافا أن غياب المسؤولية هي حالة عامة لدى الوكلاء في بلدان العرب بصفة خاصة(بموجب بند ثابت في عقود التفويض)، ولدى حكام العالم الثالث بصفة أعم.. والحق أن هذه الحالة من تعطل المسؤولية وانفلاتها هي بنت شرعية للاستبداد.. فالاستبداد هو أبوها البيولوجي والروحي,, أو لنقل أنهما موجودان مترابطان جدليا باطراد عكسي، بحيث يشكل أحدهما مظهرا لغياب الآخر أو ناتجا عن ذلك الغياب..
وبديهي أن سيادة الاستبداد، وتمييع مفهوم المسؤولية وتغييب لوازمه وعدم إنفاذ مقتضياته، أدى إلى ترهل البلدان محضن هذه الأدواء، وظهور أسقام ووهن بجسدها، حتى صارت خاوية على عروشها، فارغة، ليست على شيء ولا تقدر عليه، عدا عن شكليات وطقوس مفروضة داخليا أو خارجيا..
وهكذا أصبحت الحكومة -بصفتها أكبر مؤسسة تنفيذية- ليست حكومة بمفهومها الأصلي، ولا الأحزاب أحزابا، والانتخابات ليست انتخابات، والأعياد ما هي بأعياد، وقطاعاتنا ما هي قطاعات،، بل وأصبح المسخ يطال كل المكونات الذاتية والمعنوية، فأصاب الشخصيات والألقاب والمثقفين... وعموم الناس، حتى أصبحنا فارغين محيرين..
وسنحاول -عبر سلسلة طويلة من المقالات- التعرض لبعض مظاهر هذا الوهن على جميع الأصعدة ، وسنضرب لذلك أمثلة -متى كان ذلك ممكنا- ببعض "الكيانات"، حين نستعرض نماذج لسلوكات وحالات حكام الكنطونات المعربة، وكذا شكل بعض مؤسساتها الرسمية والمدنية، وسير عملياتها، وتشريح بعض القطاعات خصوصا الحيوية منها، والتعريج على تقييم أنماط سلوك أفرادها من مختلف الطبقات الاجتماعية والتعليمية والسياسية... بالمجمل سنحاول التطرق لماهية "المؤسسات" المسخ الناتجة، التي تسيطر على الحياة، وتنسب زورا إلى الشعب، في حين أنها مجرد مطية يتكسب بها المستبد وأزلامه المتنفعون مشروعيتهم المزعومة..
تأسيسا على هذا وعلى ما سبق نشره، ليس ضروريا التذكير أن المسؤول عن ازدهار أو اندحار أية مؤسسة هو رئيسها، وعليه يكون التغافل عن الرئيس والتغول على الموظف منتهى الدناءة!!!.. فسبب نكستنا هو الحاكم، سواء حكم فعليا أم سمح باستغلاله الرمزي، وعليه تكون معركتنا الرئيسة -من أجل التقدم- معه، ولا يُلتفت إلى مَن دونه إلا بقدر مساهمته في تكبيل الأيدي وتأبيد غلبة المتغلب من أجل بقاءنا في القعر، ولا يُنظر إليه إلا كأدوات في يد المستبد الجاثم..
غير أنه للعدو(المستبد) أركان وأدوات هي إكسير حياته، تمثل مروّدا ملبّسا، وساحرا ممهِّدا، ومزوِّدا مغْنِيا، وسياجا حاميا، لا يمكن الوصول إليه إلا بمنازلتها، وأول النزال الفضح والتعريض..
وتتفاوت هذه الأدوات في الخبث والمكر والخديعة، غير أن أقذرها وأبغضها على الإطلاق هو ما يشتغل في البقع المقدسة كالمنابر والمحارب ومواقع الإفتاء والوعظ والتوجيه، لأنهم يتقمصون دور المبلغ عن الله!!!..
"أئمة" و"خطباء" و"فقهاء" و"وعاظ" و"مرشدون "دينيون"" و"علماء" "الدين الرسمي" هم شر هذه الأمة، هم وبال عليها، هم سبب نكستها، هم السكاكين التي يقطّع بها المستبد أوصال المجتمع.. لعن الله المضللين منهم لعنا كثيرا بما استغلوا دينه وباعوا آخرتهم ولبّسوا على الناس ودلسوا..
وقد استحقوا المرتبة الأولى عن جدارة لمنزلة موقعهم في قلوب الناس، ولذلك فقد أخذ المستبدون بنواصيهم، واستغلوهم بأزهد الأثمان: أخس خدمة بأبخس ثمن!!!..
في المرتبة الثانية يأتي سحرة فرعون، المرتزقون بالكلمة والصوت والصورة، شهود الزور وقالبو الحقائق ورائدو عمليات تجميل بشاعة النظام وشناعته.. عليهم اللعنة بقدر كذبهم لتحصين الحاكم المتسلط المستقوي المدجج، وتدجين المحكوم الأعزل المفقر المجهل المغيب..
بعد الملبسين باسم الدين والمدلسين باسم الإعلام، يأتي ترتيب "النخبة" المزيفة، ولا أقصد السياسيين والنقابيين "الواردين" من حوض المخزن، فأولئك صنف آخر، وإنما المقصود طبقة من المتعلمين يدعون الثقافة وممارسة النضال، غير أنهم لا يتعدون أن يكونوا فرشة
من العياشة يختلف مستواها عن مستوى العياش "القاعدي"(Basique) في الترسب فقط، يمكن أن نسميه العياش التقني أو العياش المحترف، أو العياش المتطور..
غاية ما يصل "نضال" أحدهم هو مقارعة المنتمي الفلاني إلى الحزب العلاني بحجة ممارسته التسيير السياسي والتدبير الاقتصادي لوحدة إدارية أو سياسية أو ترابية ما، وهو يعلم، ويتجاهل، الفاعل الحقيقي،، والكومبارس،، ويعمد إلى خلق وخوض معارك دونكيشوطية "يعري الفساد"،، ويغطي الاستبداد!!!..
هذا إذا لم يتفرغ لإقامة قيامة حول هفوة لا تغتفر سقط فبها العالم الفلاني في المعاصر من الزمان أو في الغابر.. هفوة لا تتعلق -طبعا- بمحاباة حاكم متغلب،، أو السكوت عليه!!!..
منهم أيضا من لا يجد غير ضرورة الاجتهاد وتنقيح "التراث" والبحث في المشترك الإنساني والتسامح والاعتدال والتوسط(وكأن المسلمين قد قهروا غيرهم في أعقار دارهم هناك وراء المحيطات، وإنا يهلك منا الحرث والنسل بين ظهرانينا بين البهو والمطبخ!!!..)...
منهم من لا تكفيه هذه العنتريات ذات الوجوه السياسية، أو الفكرية، أو الإيديولوجية، فيضيف إليها وجوها رياضية أو "فنية"... فنصبح لا ننتهي من معركة مع خصم سياسي، حتى ندخل تحليل فضيحة، لنمر مباشرة إلى مقارعة أنصار الفريق الخصم، طبعا بعد أن نكون خضنا مواجهات بين مؤيد ل"الحكم المدني" ومدافع عن الهوية!!!..
هم عالة معطلة لحركة التغيير وسيرورته، بما يُحسبون ذوو رأي يخلط على كثير من العوام أمور تموقعهم.. إضافة إلى الإلهاء وتشتيت الانتباه واستنزاف الجهد، ذنبهم الأكبر أنهم موهوا ملء فراغ، فلا هم ملؤوه ولا هم تركوه فارغا ليحس الناس به وبالحاجة إلى ملئه..
تبوأت هذه الأركان الصدارة لأنها المعول عليه في ضبط الناس الذين لا يمكن ضبطهم كلهم إذا آل الأمر لمحض القوة..
ركن آخر من أركان الاستبداد يتكون من طبقات "إجرائية"، يعسر تمييز مكوناتها والفصل فيها بين أجزاء الاستبداد ذاته، وبين "خدامه الأوفياء المأجورين النظاميين المرسمين". كما يصعب ترتيب تلك المكونات من حيث الأهمية بالنسبة له، بل ويصعب مجرد حصرها كاملة!!!..
من بين تلك المكونات "الجباة" المضاربون في الحقل المالي، وهو عصب الاستبداد وشريان حياته، وبسببه يتم التسلط والتحكم والأثرة والاستفراد..
من الجباة العاملون في السلك العمومي للمالية بمختلف مجالاته ومستوياته، كما نجد الأذرع المتنكرة المتوغلة في القطاع الخاص من مقاولات وخدمات... القاسم المشترك بينهم إطلاق اليد المالي والمعاملة الموغلة في التفضيلية في الامتيازات والعلاوات والأتاوات...
لحماية نفسه، ولعدم ثقته في شعبه ولا حتى في رجالاته، ينزع المستبد إلى الركن الأخير، وهو بناء كيان بوليسي متعدد التلاوين، بل وغير معروف الأجهزة مؤسساتيا، عماده التنافس على التزلف والفوز بالرضى المرصّد أموالا مباشرة وامتيازات عينية وتسهيلات خدمية،، يتجسس كل مكون على الآخر،، حتى نصل إلى حظيرة يشك فيها الكل في الكل ويراقب الكلُّ الكلَّ... ولا يُعرف للمتاهة بداية ولا نهاية، ولا قمة ولا قاعدة، جزء أصيل من هذا الحيص بيص هو جيش الدولة الذي أسسه الناس لحماية الحدود ومواجهة العدو الخارجي المفترض، ويختزل المستبدون وظيفته في وضعه "قوات تدخل احتياطية" يلجؤون إليها عند عدم كفاية الأجهزة القمعية المختصة، مقابل إطلاق يد الجنرالات لنهب ما عافه المستبد أو فوضه!!!..
من مكملات هذه الأجهزة أجهزة أم القطاعات(الداخلية) بدء من الأعوان وبائعي السجائر بالتقسيط في ملتقيات الطرق، وصولا إلى أعلى الهرم المؤسساتي الذي يَعتبر كل القطاعات الأخرى مصالح خارجية تابعة له!!!..
ولتكتمل الصورة ويصفّر هامش الخطأ، لا بد من إضافة ركن آخر عبر ضم مسؤولي دكاكين العطارة السياسية والبراريك النقابية وجوقة "الأعيان" و"النخب" الفارغة، ضمهم إلى المأدبة لتكون ذراعا للاستبداد ذو وجه "تمثيلي"، "شعبي"..
نصل إلى السياج العريض والمنصة الواسعة التي يرتكز عليها الاستبداد، وهي "العياشة الدون" بمختلف فئاتهم.. وهم في الحقيقة نتيجة طبيعية ومنطقية للركنين الأولين(الملبسون باسم الله، والمدلسون باسم الإعلام) أضحت ركنا،، وانتشرت فطرا ساما بين الأنام انتشار
النار في الهشيم!!!.. وخصوصية هذه الطبقة إذن أنها تمثل النتيجة والسبب في آن.. فهي تجسيد لعملية تدوير نواتج الاستبداد: هو من ينتج هذه الآلات البيولوجية، وهي من تحميه لينتج أخرى،، وهكذا..
سنتناول بعض مظاهر ونواتج الاستبداد في بعض الشكليات والممارسات والقطاعات، وسنعود بتفصيل أدق لهيمنة "أم القطاعات" على أخواتها الأجدر..