دي ميستورا يبحث تطورات قضية الصحراء المغربية مع خارجية سلوفينيا    المغرب والسعودية يعززان التعاون الثنائي في اجتماع اللجنة المشتركة الرابعة عشر    المملكة العربية السعودية تشيد بجهود جلالة الملك رئيس لجنة القدس من أجل دعم القضية الفلسطينية    المملكة العربية السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    الوقاية المدنية تتدخل لإنقاذ أشخاص علقوا داخل مصعد بمصحة خاصة بطنجة    إجهاض محاولة تهريب دولي للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 107 كيلوغرامات من الشيرا    أوزين: عدم التصويت على قانون الإضراب مزايدة سياسية والقانون تضمن ملاحظات الأغلبية والمعارضة    وزيرة التنمية الاجتماعية الفلسطينية تُشيد بمبادرات جلالة الملك محمد السادس لدعم صمود الفلسطينيين    تعرف على برنامج معسكر المنتخب المغربي قبل مواجهتي النيجر وتنزانيا في تصفيات كأس العالم 2026    لهذه الاسباب سيميوني مدرب الأتليتيكو غاضب من المغربي إبراهيم دياز … !    صرخة خيانة تهز أركان البوليساريو: شهادة صادمة تكشف المستور    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    سلا: حفل استلام ست مروحيات قتالية من طراز 'أباتشي AH-64E'    الاستثمار السياحي يقوي جاذبية أكادير    الكاف يشيد بتألق إبراهيم دياز ويصفه بالسلاح الفتاك    فيفا يكشف جوائز مونديال الأندية    المغرب يستقبل أولى دفعات مروحيات أباتشي الأميركية    "حماس" تؤكد مباحثات مع أمريكا    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وزخات مطرية رعدية قوية الأربعاء والخميس    فاس تُضيء مستقبل التعليم بانضمامها لشبكة مدن التعلم العالمية    إقليم الحسيمة .. أزيد من 17 ألف أسرة مستفيدة من عملية "رمضان 1446"    3 قمم متتالية تكرس عزلة النظام الجزائري وسط المجموعة العربية وتفقده صوابه ومن عناوين تخبطه الدعوة إلى قمة عربية يوم انتهاء قمة القاهرة!    المغرب..البنك الأوروبي للاستثمار يسرّع دعمه بتمويلات بقيمة 500 مليون أورو في 2024    دنيا بطمة تعود لنشاطها الفني بعد عيد الفطر    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    تداولات بورصة البيضاء بأداء سلبي    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    "أونسا" يطمئن بشأن صحة القطيع    وكيل أعمال لامين يامال يحسم الجدل: اللاعب سيمدّد عقده مع برشلونة    مونديال الأندية.. "فيفا" يخصص جوائز مالية بقيمة مليار دولار    قصص رمضانية.. قصة بائعة اللبن مع عمر بن الخطاب (فيديو)    مطار محمد الخامس يلغي التفتيش عند المداخل لتسريع وصول المسافرين    هذه مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الخميس    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    دراسة: النساء أكثر عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر من الرجال    العثور على أربعيني ميتًا نواحي اقليم الحسيمة يستنفر الدرك الملكي    حدود القمة العربية وحظوظها…زاوية مغربية للنظر    «دلالات السينما المغربية»:إصدار جديد للدكتور حميد اتباتويرسم ملامح الهوية السينمائية وعلاقتهابالثقافة والخصائص الجمالية    «محنة التاريخ» في الإعلام العمومي    القناة الثانية تتصدر المشهد الرمضاني بحصّة مشاهدة 36%    تحذير من حساب مزيف باسم رئيس الحكومة على منصة "إكس"    طنجة تتصدر مدن الجهة في إحداث المقاولات خلال 2024    النيابة العامة تتابع حسناوي بانتحال صفة والتشهير ونشر ادعاءات كاذبة    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    كسر الصيام" بالتمر والحليب… هل هي عادة صحية؟    اليماني: شركات المحروقات تواصل جمع الأرباح الفاحشة والأسعار لم تتأثر بالانخفاض في السوق الدولية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    هذه أبرز تصريحات ترامب في خطابه أمام الكونغرس    أبطال أوروبا.. قمة ألمانيا بين البايرن و ليفركوزن واختبار ل"PSG" أمام ليفربول    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    الصين تعلن عن زيادة ميزانيتها العسكرية بنسبة 7,2 بالمائة للعام الثالث على التوالي    المنتخب المغربي يدخل معسكرا إعداديا بدءا من 17 مارس تحضيرا لمواجهة النيجر وتنزانيا    اجتماع بالحسيمة لمراقبة الأسعار ومعالجة شكايات المستهلكين    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بكاء رئيس "العثماني" في زمن "كوفيد التاسع عشر"، تمويه سياسي أم عاطفة صادقة؟
نشر في أخبارنا يوم 17 - 04 - 2020

انهمرت دموع رئيس الحكومة وهو يستعرض حصيلة ضحايا كوفيد19، وبدت علامات التأثر ظاهرة على محياه، وعلى لَكْنَتِهِ في مشهد لم يُعَوِّدْ عليه المغاربة، خلافا لسلفه الذي كان بَكَّاءً، مما أثار ردود أفعال متباينة بين من اعتبرها دموعا صادقة تعبر عن إحساس إنساني تجاه فجيعة الموت، ومن صنفها في خانة البروباغاندا السياسية التي حاول صاحبها استثمار اللحظة لمآرب أخرى.

بعيدا عن خطاب النوايا سنعمد في هذه الورقة إلى الوقوف مليا عند اللحظة البكائية لرئيس الحكومة بوصفها علامة سيميائية اتخذت مسارا استهوائيا، وسنحاول مقاربة نوازعها الباتوسية في علاقتها بالحجاج العاطفي، وبالسياق الذي وردت فيه، وسنمهد لموضوعنا بالحديث عن ثنائية البكاء والجَلَد العاطفي في الشعر العربي كمدخل لأخذ نظرة عن تيمة البكاء عند العرب.

شعراء العرب وبُكَاءُ العَلَن

يُعَدُّ الشعراءُ ألسنةَ شعوبهم وأممهم، والناطقين غير الرسميين بأفكارهما ومعتقداتهما، فالمواضيع التي كتبوا حولها قصائدهم مَثَلَتْ نَبْض الإنسان العربي، والاختلاف في وجهات نظر الشعراء وَازَاهُ اختلاف آراء المتلقين وتصوراتهم حول المنجز الإبداعي، ومدى نُطْقِهِ بلغة البيئة التي وُلِدَ فيها، وموضوع البكاء علانية أحد المواضيع التي تشهد على انقسام الشعراء العرب إلى فئتين: فئة ترفضه بوصفه تعبيرا عن الهشاشة والضعف، لا يليق بالرجل الذي يجب أن يظل متماسكا، وأن يحرص على ألا يسقط صريع دموعه لأن ذلك ينخر رجولته، ويصيب نرجسيته في مقتل، يقول أبو فراس الحمداني بهذا الصدد[1]:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تشعرين بحالي؟

لقد كنت أولى بالدمع منك مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالٍ

فرغم حاجة الشاعر إلى استفراغ ألم الذات بالبكاء، فإنه يصر على الامتناع عن إطلاق دموعه، لأن اللحظةَ لحظةُ جِدِّ تتطلب التماسك والصلابة، ومن شأن البكاء أن يعصف بها، ويظهرها في مظهر الضعيف الخائر القوى الذي لا حول له ولا قوة، فهذا التعبير الاستعاري يمنح للدمع قيمة نفيسة لا يستحق أي أمر، مهما كانت جلالته، هطوله، وهو ما أكده الشاعر نفسُه كذلك في الشعر الغزلي الذي هو ميدان البكاء بامتياز، وهو المسرح الذي لا يتردد كثير من الشعراء في ذرف دموعهم فوق ركحه، إظهارا للوعتهم، أو تحسرا على لحظة وصال منفلتة، يقول أبو فراس الحمداني:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر

فلحظة الهيام العاصفة لم تنل من الشاعر، لأنه لا يرضى بأن يذاع سر انهزامه في الهوى، وحتى إن استبد الدمع وغالب الذات، وأصر على الانهمار، فليكن تحت جنح الظلام، بعيدا عن أنظار المتشفين، وليكن بكاء كرامة لا استجداء.

والموقف نفسه يعبر عنه الشاعر بشامة بن حزن النهشلي[2] مفتخرا بقومه:

ولا تراهم وإن جَلَّتْ مصيبتُهُم مع البُكَاةِ على من مات يبكونا

فالشاعر استدعى لحظة صعبة جدا، هي لحظة الموت التي تنهار فيها المعنويات، وتجري فيها الدموع على الخدود حزنا وفَرَقًا على فراق حبيب أو قريب، استدعى هذه اللحظة ليصف من يتحدث عنه بالجَلَد وهزم البكاء وفق حجة "بالأحرى" (Argument a fortiori)، فصبرهم واستعصامهم في هذا الموقف، يفيد أنهم، سيكونون، من باب أولى، أكثر تماسكا في مواقف أخرى أقل شأنا من الموت وفجيعته.

بالمقابل ثمة فئة أخرى لا تمانع في إعلان انكسارها وذرف دموعها، معتبرة ذلك قَدَرَها المحتوم أمام جبروت المأساة التي أَلَمَّتْ بها، ويَعُجُّ الشعر العربي بقصائد بكائية كثيرة، كتبها الشعراء بدموعهم، وأبدعوا في وصف قلة حيلتهم وهوانهم أمام مُصَابِهِم الجَلَل، سواء كان موتا أم بَيْنًا، وتشهد مقدمات القصائد العربية القديمة على احتفالية بكائية بالإطلال تحولت إلى تقليد دَرَجَ عليه أغلب الشعراء، يقول امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فذكرى من سكنوا الديار، وغادروها تاركين وراءهم أطلالا شاهدة على مرورهم تستدعي منحها طقسا بكائيا جعله ابن قتيبة الدينوري فرضَ عَيْنٍ في تشييد المعمار الأولي للقصيدة، يقول مقدمة كتابه الشعر والشعراء: "سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مُقَصِّدَ القَصِيدِ إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق".

ولم يتردد كثير من الشعراء، لاسيما في قصائد الغزل، في ربط البكاء بالهزيمة النفسية، وفي نَعْيِ ذاتٍ استعصى عليها الممكن إلى درجة الاستحالة، فتحولت إلى طلب المستحيل تصميما منها على تصوير فجيعتها وحجم خيبتها الكبير، يقول قيس بن المُلَوَّح (مجنون ليلى)[3] :

بَكَيْتُ على سرب القطا إذْ مَرَرْنَ بي فقلتُ ومثلي بالبكاء جَدِيرُ

أَسِرْبَ القَطَا هل من معيرٍ جَنَاحَهُ لعلي إلى مَنْ قد هَوِيتُ أطيرُ

وهذا يتساوق مع نظرة الشاعر "إيليا أبو ماضي" الذي يرى أن اللجوء إلى البكاء هو الحل الأخير المتاح لكل محزون انسدت في وجهه كل أبواب الفرح، وبقي أمامه وجْهُ الحزن وحده مفتوحا:

يبكي بكاءَ طفلٍ فَارَقَ أُمَّهُ ما حيلَة المَحْزُونٍ غَيْرُ بكاءِ

بكاء السياسيين وموقف الجمهور منه

يميل السياسيون عادةً إلى الاعتداد بأنفسهم وإظهار صلابتهم في مواجهة ما قد ينوبهم، أو ينوب شعوبَهُم، ويتحاشون الظهور بمظهر الضعيف المنهزم عبر ذرف الدموع، لكن ثمة بالمقابل مواقف أجهش فيها زعماء سياسيون بالبكاء، لا سيما الإنسانية منها، مع أن السائد في هذا المجال هو الاستعصامُ وإظهارُ الجَلَدِ، لأن البكاءَ يُظْهِرُ صاحبَه في مظهر العاجز الذي لايملك القدرة على اتخاذ القرار، ويضعه في صورة المستسلم أمام جبروت الحدث، وربما عصفتْ لحظة بكائه بمستقبله السياسي، كما حدث لِمرشح الرئاسة الأمريكي "ادموند ماسكي" سنة 1972 الذي كان في طليعة المترشحين قبل أن تعصف به دموعٌ ذرفها دفاعا عن زَوْجِهِ الثَّمِلَة، ليندحر ويخرج من السباق باكرا[4].

فَذَرْفُ الدموع إذن تعبير عن الانهزام، وخيط أخير قد يلجأ إليه السياسي لِيُرَتِّقَ به جرح الفشل في تدبير مشكل وجد نفسه عاجزا عن حَلِّه، فَدَثَّرَ هزيمتَه بدموع سيعلق عليها أمل الاحتفاظ له بمكانته، أو سيراهن على أن تزيد في شعبيته، يرى الفيلسوف الفرنسي جورج ديدي هوبرمان أن"من يبكون هم من قد يفتقرون إلى السلطة في تغيير الوضع الذي يبكيهم، لكن حبات الكريستال المتلألئة على الخدين تعطيهم قوة. البكاء يعني المعاناة، لكنه دليل قوة سياسية يتكئ عليها من يظهرون في حالة متقدمة من قلة الحيلة"[5]، ومن يمتلك قراره سيحرص على النأي بنفسه إلى استدرار عطف الجمهور بواسطة الدموع، بل سيسعى إلى فرض ذاته بقوة الفعل والممارسة، وربما ذهب بعيدا فأعلن الحرب بمفهومها الحقيقي أو المجازي لفرض إرادته أو إرادة شعبه، لأن "الوطن تميته الدموع، وتحييه الدماء" كما قال أحد ملوك أوروبا، وقد رأينا كم بكى السياسيون العرب في مؤتمراتهم دون أن يغيروا وضعا، أو يزحزحوا عنهم صخرة التحديات التي تواجههم، وكثيرا ما تحول بكاؤهم إلى سخرية منهم، وتحضرنا في هذا السياق واقعة بكاء "أبوعبد الله الصغير" آخر ملوك غرناطة الذي انزوى باكيا بعد سقوط الأندلس، فَرَمَتْهُ والدته بهذه العبارة الجارحة: "ابكِ كالنساء مُلْكًا لم تحافظْ عليه كالرجال".

بكاء رئيس الحكومة، السياق والدلالات

لا يمكن فهم واقعة بكاء رئيس الحكومة وهو يستعرض حصيلة الوفيات التي سَبَّبَها فيروس كورونا دون استحضار السياق الذي وقعت فيه، ورمزية المكان الذي احتضنها (قبة البرلمان)، ودون استحضار تَمَثّلِ الجمهور (المواطن) لشخصه، "فالمتكلم، سواء كان شخصا حقيقيا، أم صورة خِطابية، ليس ذاتا منفصلة عن خطابها...لا يمكن تلقي هذا الخطاب بمعزل عن الصورة التي تكونت في ذهننا عن المتكلم"[6]، ولا يمكن كذلك إغفال تمثله هو نفسُه لهذا الجمهور الذي كان له تأثيره الواضح عليه حينما تحدث، وحينما بكى، يقول عبد الله صولة: "حضور الجمهور مهم جدا بالنسبة إلى الخطيب، إذ به يُكَيِّفُ خطابَهُ"[7]، وما دمنا أمام متكلمٍ ومُتَلَقٍّ فنحن أمام إرسالية لا تخرج عن واحد من شيئين حصرهما حازم القرطاجني في سياق حديثه عن الشعر:"كل كلام يحتمل الصدق والكذب، إما أن يرد على جهة الأخبار والاقتصاص، وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال "[8]، وهنا نتساءل هل كانت غاية رئيس من إرسال الخطاب تقديم آخر الحصيلة (الإخبار) أم حركته غايات حجاجية تتجاوز الخبر إلى الرغبة في التأثير على المستمع؟

إن أخذنا بالافتراض الأول، سنكون بصدد خَبَرٍ يُعَرِّفُهُ البلاغيون ب "ما يَصِحُّ أن يُقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب"، وهنا تبدو مفارقة تقمص رئيس الحكومة لشخصية مُقَدِّمِ نشرة الأخبار، فاستعراض الأرقام والبكاء بعدها يجعل لخبره غرضا بلاغيا يسمى فائدة الخبر، بمعنى أنه بصدد تقديم معلومات للمواطنين يجهلونها، في حين أن الجميع يتلقون عبر تطبيقات إلكترونية مختلفة حصيلة الإصابات بالفيروس على مدار الساعة، مما يضع رئيس الحكومة، إن أخذنا بهذا الافتراض، في خانة السخرية، وفي صورة المسؤول العاجز عن الإتيان بخبر جديد يعكس وضعه في هرم الدولة بوصفه ثاني شخصية في الهرم السياسي للبلاد.

أما إن أخذنا بالافتراض الثاني، واعتبرنا خطاب رئيس الحكومة حجاجيا، فسنصطدم بشخصية الباث التي بَدَتْ ضعيفةً، مما يتناقض مع ما يستلزمه الموقف من قوة الحجة وجِدَّةِ المعطيات تبعا للسياق الإقناعي الذي يؤطره، يقول محمد الولي:"إن الباث يبعث الرسالة لأجل إحداث تغيير، أو تثبيت رأي المتلقي أو سلوكه، أو هما معا"[9]، وعندما يتعلق الأمر بالتغيير فالمهمة تبدو جسيمة، وتحتاج إلى بَاثّ ذي شخصية قوية، يملك معطيات الموضوع الذي يتحدث فيه وعنه، ويتميز عن غيره في تناوله، ولا يعيد تكرار ما يروج، وفي اجتراره، ولا بأس حينئذ أن يستعين بخطاب العاطفة ليكمل حجاجه، لأن"البعد العاطفي هو بالأحرى الذي يُرَشِّحُ أكثر من غيره الخطاب لكي يكون حجاجيا"[10].

هذه المعطيات كانت كلها غائبة في بكائية رئيس الحكومة، لقد كنا أمام سرد وقائع، وليس أمام خطاب حجاجي، كأن الباثّ انْتُدِبَ من قبل السلطات ليعيد تذكير المواطنين بالإجراءات التي باشرتها بخصوص جائحة كورونا، سنكتفي ها هنا بهذين المثالين من ضمن حديثه السردي: "السلطات المعنية دارت الخدمة ديالها" "الإجراءات التي فرضتها السلطات الخاصة، كُلٌّ في مجاله، سواء الصحية، سواء الأمنية، سواء الإدارية، سواء التعليمية..."، تبدو ذات المتكلم/ المسؤول غائبة تماما، ولذلك غاب ضمير المتكلم الذي يعد عنصرا أساسيا في الحجاج لأنه يعطي الانطباع بحضور الذات القوي في صنع القرار، وهذا ما أدى إلى تلاشي حجة السلطة (Argument d'autorité ) ، فبدا الخطاب خاليا من المشيرات التي تؤكد حضور رمزية رئيس الحكومة وسلطته المفترضة، فالسلطات هي التي تفرض القوانين، وتخبر المواطنين، والباث يوصل خبرا متداولا ومستهلَكًا، وهذا ما جعل هذا الخطاب خاليا من حجة السلطة التي تتأسس على هيبة المتكلم ونفوذه وسطوته، لأن "المثال Modéle ليس له من النفوذ والهيبة ما يجعل كلامه مقنعا"[11].

في ظل هذه الوضعية، وأمام هذا الفراغ الحجاجي، احتمى رئيس الحكومة بدموعه حتى يؤثر في المتلقي، ويصرف نظره عن فشله في مسعاه الحجاجي، وعن عجزه في إظهار مؤسسة رئاسة الحكومة في صورتها التي رسمها الدستور، هذا الهروب من الواقع، ومن وخزاته الممضة هو ما يسميه شاييم بيرلمان "مرض الديبلوماسية"، ويعرفه قائلا: "هو إحدى التقنيات التي تُمَكِّنُ من تأخير اختيار مُسْتَكْرَهٍ، أو تضحية مؤلمة"[12]، فاللجوء إلى البكاء كان تعبيرا عن الفشل في إنتاج خطاب حجاجي متماسك ومُقَنِعٍ، لا سيما أن الذات المرسلة للخطاب تعرف أن المتلقي يدرك ضآلة وجودها وتأثيرها السياسي في المواقف الكبرى، وفي القرارات المصيرية والمهمة، وما غياب رئيس الحكومة، وإبقائه بعيدا عن تدبير صندوق الدعم المحدث بسبب جائحة كورونا سوى مثال من أمثلة متعددة وكثيرة.

ختاما يحضرني هذا المقطع للشاعر أمل دنقل من قصيدته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"[13]، يتحدث فيه على لسان عنترة بن شداد، مع التنويه إلى فرق جوهري، يتمثل في كسب الفارس الشاعر الرهان، وإخفاق السياسي إخفاقا شديدا

أيتها النبية المقدسة ..

لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..

لكي أنال فضلة الأمانْ

قيل ليَ "اخرسْ .."

فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !

ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان

أجتزُّ صوفَها ..

أردُّ نوقها ..

أنام في حظائر النسيان

طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .

وها أنا في ساعة الطعانْ

ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ

دُعيت للميدان !

أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..

أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..

أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،

أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة !!

[1] الموسوعة العالمية للشعر العربي، موقع إلكتروني.

[2] انتقاء كريم مرزة الأسدي، الموقع الرسمي للمؤتمر الدولي للغة العربية.

[3] الموسوعة العالمية للشعر العربي

[4] راغدة بهنام، دموع السياسيين، جريدة الشرق الأوسط، الثلاثاء 22 يناير 2008، بتصرف

[5] جورج ديدي هوبرمان، أناس دامعون أناس مسلحون، نقلا عن هيفاء زعيتر، الدموع سلاح فعال في السياسة، موقع رصيف22، الأربعاء 07 شتنبر 2016

[6] محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2017، ص169

[7] عبد الله صولة، في نظرية الحجاج، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى 2011، ص 22

[8] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الأديب بن خوجة، الدار العربية للكتاب، تونس، الطبعة الأولى 1968، ص62

[9] الخطابة والحجاج بين أفلاطون وأرسطو وبيرلمان، فالية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2020، ص 66

[10] نفسه، ص 70

[11] عبد الله صولة، مرجع سابق، ص 52

[12] الحسين بنو هاشم، نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2014، ص 61

الموسوعة العالمية للشعر العربي.[13]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.