في بداية تفشّي فيروس كورونا خارج الصّين، كانت كوريا الجنوبيّة وإيران وإيطاليا بؤره الجديدة. والخشية في كوريا الجنوبية كانت أكثر من إيران وإيطاليا، نظرًا للقرب الجغرافي من الصّين وكثافة السكّان العالية؛ والآن، بعد شهر، تتصدّر إيران وإيطاليا أرقام الوفيات اليوميّة، وتكاد لا يلحظ المشاهد اسمًا لكوريا الجنوبية في جداول الموت المحدّثة. ودفع هذا التحوّل في كوريا الجنوبيّة باحثين عديدين إلى تقصّي أسباب نجاح البلاد في منع تفشّي الفيروس، وبالتالي، منع الكارثة من الوقوع. واللافت في التجربة الكورية الجنوبيّة أنها تمّت دون فرض قيود صارمة على الحركة والتنقّل، ولم تعلّق العمل أو تغلق الاقتصاد، مثل أوروبا والولاياتالمتحدة. وتبدو الخطوات التي اتخذتها واضحة جدًا وبسيطة، إلّا أنها تتطلّب جهودًا واسعة وقدرات هائلة: إجراءات سريعة من قبل السلطات، اختبارات كورونا واسعة النطاق، نشر مسارات سير المرضى، والنقد المتواصل من المواطنين. ورصد تقرير موسّع لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة 4 دروس من كورريا الجنوبيّة، يمكن للعالم أن يحتذيَ بها: الدرس الأوّل: التدخّل بسرعة، قبل أن تتحوّل لأزمة شُخّصت أوّل إصابة بفيروس كورونا في كوريا الجنوبية نهاية يناير الماضي، وفور ذلك، التقى مسؤولو الحكومة فيها بممثلين عن شركات طبيّة، لحثّها على البدء، بشكل فوري، بتطوير معدّات لفحص كورونا بوتيرة ضخمة، قبل تطبيق حالة الطوارئ حتى. وخلال أسبوعين، بينما بقيت الإصابات في البلاد أقل من المئات، كانت البلاد تنتج معدّات لآلاف الفحوصات يوميًا. وتنتج كوريا، حاليًا، 100 ألف رزمة لفحص كورونا يوميًا، وتصدّرها إلى أكثر من 17 دولة. كما فرضت السلطات، بسرعة كبيرة، إجراءات الطوارئ في مدينة دييغو، التي يبلغ عدد سكانها مليونين ونصف المليون نسمة، وبدأت العدوى فيها بالانتشار بعدما شاركت عشرات في قدّاس بكنيسة محليّة. وقال مستشار الحكومة الكوريّة، عالم الأوبئة، كي مو ران، إنه أمكن لبلاده التعامل مع العدوى دون تقييد الناس "لأننا كنا نعرف المصدر الرئيسي للعدوى، جماعة الكنيسة، في وقت مبكر جدًا"، وأضاف "لو علمنا بذلك في وقت لاحق، لكانت الأمور أسوأ بكثير". بالإضافة إلى ذلك، ساهم تفشّي فيروس شبيه يحمل اسم كورونا في البلاد عام 2015 وأودى بحياة 38 شخصيًا إلى تجهيز السكان للتعامل مع الفيروس على شكل حالة طوارئ وطنيّة، على عكس الأوروبيين والأميركيين. ويعتقد أن للفيروس فترة حضانة مدّتها 5 أيام، ومن ثمّ تتبعها فترة من الأعراض الخفيفة التي يمكن الخلط بينها وبين الرّشح، وهذه الفترة يكون فيها الفيروس سريع العدوى، وهذا التصّرف للفيروس يخلق تأخرًا لمدة أسبوع أو أسبوعين قبل ظهور علامات تفشّي المرض. ما يمكن أن يكون بضع حالات يمكن أن يتحوّل إلى مئات، والمئات تتحوّل إلى آلاف. وعلّق نائب وزير الصحّة في كوريا الجنوبيّة، كيم جانغ ليب، ل"نيويورك تايمز"، بالقول إنّ خصائص الفيروس هذه تجعل الاستجابة التقليدية، التي تؤكد على الإغلاق والعزلة، "غير فعّالة" في منع انتشار الفيروس. الدرس الثاني: فحوصات جماعية... دون استنزاف المشافي تعدّ كوريا الجنوبيّة أكثر دولة أجرت فحوصات لأشخاص بالفيروس، حتى لأولئك الذين لا تظهر عليهم أعراض المرض، ما مكّنها من عزل ومعالجة العديد من الأشخاص بعد وقت قصير من إصابتهم. وبلغ عدد الفحوصات، حتى العشرين من آذار/ مارس الماضي، قرابة 300 ألف، بكلمات أخرى، فاحتمال أن يجرى لك فحص في كوريا الجنوبيّة أكثر ب40 مرّة من احتمال أن يجرى لك فحص الولاياتالمتحدة. وقال وزير صحّة كوريا الجنوبيّة، كانج كيونج وا، لشبكة "بي بي سي"، إنّ الاختبارات أساسيّة "لأنها تؤدي إلى الكشف المبكر عن المرض، وتقلّل من انتشاره، وتعالج بسرعة المصابين بالفيروس"، ووصف الاختبارات بأنها "المفتاح وراء مستوى منخفض جدًا لدينا. ومعدل الوفيات كذلك. " وبخلاف الاعتقاد السائد، فلم تتجنّب كوريا الجنوبيّة الوباء، فأصيب آلاف الأشخاص به، إلا أنها تمكّنت، لاحقًا، من السيّطرة على انتشاره لمنع تحوله إلى كارثة. ولتجنّب استنزاف المشافي، فتحت السلطات الكوريّة 600 مركز اختبار في مناطق مختلفة من البلاد بهدف فحص أكبر عدد ممكن من الأشخاص بأسرع ما يمكن، بالإضافة إلى الحفاظ على سلامة العاملين الصحيين من خلال تقليل التواصل بينهم وبين المرضى. وتجوب 50 سيارة البلاد لإجراء فحوصات دون أن يغادر الطاقم الطبيّ السيّارة، ويتم إعطاء المراجعين إعطاؤهم استبيانًا ومسحًا لدرجة الحرارة عن بُعد ومسحة للحنجرة. تستغرق العملية حوالي 10 دقائق، عادة ما تظهر نتائج الاختبار في غضون ساعات. وفي بعض المراكز، يدخل المرضى إلى غرفة تشبه كشك الهاتف الشفّاف، ويقوم العاملون الصحيّون بإدارة مسحات الحلق باستخدام قفازات مطاطية سميكة مدمجة بجدران الغرفة. رافقت هذه الفحوصات حملات إعلامية من قبل السلطات لحثّ المواطنين فيها على السعي للاختبار إذا ظهرت أعراض المرض عليهم أو على شخص يعرفونه، كما يطلب منهم تنزيل تطبيق للهواتف يدلّهم على أمكنة لإجراء فحوصات ذاتيّة. وغالبًا ما استخدمت المؤسسات الكبرى كاميرات حراريّة، لتحديد الأشخاص المصابين بالحمى، كما تفحص مطاعم في البلاد درجات حرارة الزبائن قبل دخولهم. الدرس الثالث: تعقّب المرضى وعزلهم ومراقبتهم عندما تكون نتيجة الفحوصات إيجابيّة، أي أن الشخص مريض، يقوم العاملون الصحيّون بتتبّع تحركات المريض الأخيرة للوصول إلى الأشخاص الذين التقاهم مؤخرًا، لإجراء الاختبارات عليهم. وأدى هذا للعاملين الصحيين أن يحدّدوا شبكات انتقال العدوى في وقت مبكّر، ولاحقًا، إلى إخراج الفيروس من المجتمع. وبشكل لافت، طوّرت كوريا الجنوبية أدوات وممارسات لتعقّب "الاتصال العدواني" أثناء تفشي فيروس كورونا، منها استخدام كاميرات الأمن، وسجلّات بطاقات الائتمان، وحتى بيانات GPS من سيارات المصابين وهواتفهم المحمولة. ومع تزايد تفشي الفيروس بشكل كبير بحيث يتعذّر تعقب المرضى بشكل مكثّف، عبر الوسائل التقليديّة، اعتمد المسؤولون، بشكل أكبر، على الرسائل الجماعية، فتهتزّ الهواتف المحمولة للكوريين الجنوبيين مع إنذارات الطوارئ، كلما اكتُشفت حالات جديدة في مقاطعاتهم. تفصّل مواقع الويب وتطبيقات الهواتف الذكية بالتفصيل كل ساعة على حدة، وأحيانًا دقيقة بدقيقة، الجداول الزمنية لسفر الأشخاص المصابين - أي الحافلات التي يستقلونها، ومتى وأين يدخلون ويخرجون، حتى إذا كانوا يرتدون أقنعة. وأعادت السلطات المرضى إلى منازلهم، وأجبرتهم على عدم الخروج منها وألزمتهم بتحميل تطبيقات للتعقّب، وتصل عقوبة مغادرة المنزل إلى 2500 دولار، بينما نقل الحالات الحرجة إلى المشافي فقط، لمنع استنزافها وامتلائها. الدرس الرابع: خلق وعي عام لا تتوفّر في كوريا الجنوبية، ولا في غيرها من الدّول، طواقم طبية أو ماسحات ضوئيّة كافية لفحص درجات حرارة الملايين من الناس، وهذا حدا بالسلطات إلى حثّ الأشخاص العاديين على المشاركة في الفحوصات، وبحسب نائب وزير الصحّة في كوريا الجنوبيّة، فإنّ الحكومة خلصت إلى أن إخضاع تفشي المرض "يتطلب إبقاء المواطنين على اطّلاع تام وطلب تعاونهم". وتوفّر عمليات البث التلفزيوني وإعلانات محطات مترو الأنفاق وتنبيهات الهواتف الذكية تذكيرات لا نهاية لها بارتداء أقنعة الوجه، ومؤشرات إلى المسافة الاجتماعية وبيانات الإرسال في اليوم. ورغم أن هذه الرسائل من المحتمل أنها قد تظهر البلاد وكأنها في حالة حرب، إلا أنها وفق استطلاعات رأي نشرتها وسائل الإعلام الكوريّة، تحظى بموافقة الأغلبية على جهود وتؤدّي إلى ارتفاع الثقة، وانخفاض الذعر.