الواضح أنّ من يُديرون شُؤون الشّعوب في دُوّلنا لم يعد لديهم أدنى تفكير في أيّ شيء يُمكن أن يصبّ في مصلحة هذا الشعب، وفي مصلحة هذا البلد باستثناء السُّلطوية الّتي يعملون بكل تفان على إعادتها من جديد. لم تعد الحرّية تعنيهم شيئا، ولم تعد الدّيمقراطية بالنّسبة لهؤلاء سوى ضجيجاً لا طائل من ورائه، أمّا العدالة الاجتماعية فهي بالنّسبة لهم ليست لها أهمية تُذكر، خاصّة إذا تمّت مقارنتها بالأمن الذي يعتبرونه من الأولويات، حتّى أصبحنا نرى في واقعنا من يُمجّد فكرة "الأمن أوّلاً" الأمن قبل الحرّية " وأصبح المُطالِبُون بالأمن أكبر من المطالبين بالحرّية، ليتولّد شعور لدى الشّعوب مفاده، أنّه لا يمكنها أن تعيش في بلد يسود فيه الأمن والحرية معا .
بما أن الشّعوب أصبحت مقتنعة تماماً بفكرة الأمن أولا، وأصبحت ترى في الحرّية مسألة ثانوية، فإنّ ذلك ما جعل الكثير من الأنظمة الدّيكتاتورية في المنطقة تختار نشر الفوضى لترسيخ هذا الاعتقاد. ومن ثم أصبح الحنين إلى ماضي الأنظمة الدّيكتاتورية البغيض مسألة ضرورية و أصبح التحسّر على عهد الطّغاة الذين حكموا البلدان بالحديد والنار يجتاح قلوب الكثير من الشّعوب ،حتى أصبحت الدّول السّلطوية تتحدّث باسم الشّعب، وتتحكّم في الشّعب وتدّعي الحقّ في تقرير مصيره .
الأنظمة العربية ودول المغرب الكبير تنصّلت من فكرة الدّيمقراطية تماماً، وتنصلت من فكرة الحرّية، وأصبحت تُعادي أبناءها من الذين يُطالبون بالتّغيير .
والكلّ يعلم بالحالة التي وصلت إليه بعض الأنظمة من مطاردة لكل الأراء الحرة، حتّى وصل الأمر بهم إلى وضع الرّقابة على وسائل التّواصل الاجتماعي، فأصبح بإمكان كلمة أن تزجّ بصاحبها في السّجون، في مشهد يُعيد إلى أذهاننا الرّقابة التي فُرضت على الأصوات الحرة في سنوات القمع والرّصاص .
في الأمس القريب كانت الشّعوب العربية ودول المغرب الكبير تفاءلت خيرا عندما ثارت ضدّ الاستبداد الذي ينخر جسد الأوطان ،واعتقدت أن زمن التّحكم قد ولى إلى غير رجعة، وأنّ الحكام فهموا إرادة الشّعوب وطموحاتهم نحو بناء دول ديمقراطية يسود فيها العدل ويزول منها الفساد .
لكن الأنظمة التي قيل أنّها ستفهم صحوة الشّعوب التي انتفضت بعدما رضيت بقسمتها كما أراد لها حكامها، فهمت هي الأخرى أنّها يجب أن تُعاقب الشّعوب بدل الاستجابة لنداءات التغيير، فبدأت بتضييق الخناق على الحرّية وحرمتها من أبسط حقوقها التي تبقيها حية على وجه البسيطة، حتّى أصبح المواطن محروماً حتّى من احتياجات "مسلو" البسيطة المتمثلة في الأكل والنوم والأمن والصحّة، وما بالك بمتطلبات تقدير الذات وتحقيقها وحاجات الانتماء التي لا وجود لها في أوطاننا، كل ذلك من أجل إعادة الشّعوب إلى الحظيرة مرّة أخرى، وعدم التّفكير في كسر القيود، والخروج عن الخطوط المرسومة سلفًا .
لقد دمرت السُّلطوية مجتمعاتنا، عندما حكمتها بالحديد والنار، ودمّرتها عندما فضّلت أن تُبقيها أبعد ما تكون عن التطورات، وعن السياسات التنموية، ودمّرتها عندما خيّرتها بين الأمن والحرية ،
حتّى أصبحنا أمام شُعوب لم يعد همّها الأساسي هو التّخلّص من الاستبداد ومحاربة الفساد، بل أصبح همّها هو الحصول على إشباع حاجاتها الأساسية ولا شيء غيرها .
السّلطوية باقية وتتمدد، وصنّاعها يُجدّدون في كل مرة أساليب جديدة، من أجل إطالة أمدها، ولن يتوقّف زحفها ما دام أنّنا لم نفهم بعد أنّنا لا نحتاج فقط خبزاً وكأس شاي لنحيا على هذه الأرض، ولا حتى قليلاً من الأمن المشروط .
ستسقط السّلطوية عندما نُدرك جميعاً أنّ الخبز مهما كان ضروريا، وأن الأمن مهما كان مهما فإنّ هناك ما هو أهم منهما، إنّها الحرّية التي يجب تحريرها لتقوم بالباقي كما قال فكتور هوغو .