بكامل الحزن الأسى تلقينا خبر وفاة الزعيم العظيم مانديلا الذي ستبقى بصماته خالدة عبر التاريخ ،خاصة وأن الرجل أسدى خدمات ليس لبلده جنوب إفريقيا فقط، وإنما للعالم بأسره ،حيث معاركه النضالية ضد العنصرية والبحث عن إقامة دولة العدالة والديمقراطية أدخلته التاريخ من أوسع أبوابه . مانديلا البطل الذي ليس كمثله في كل الأوطان ضحى بحياته، وأهدى نفسه للسجان من أجل أن يعيش شعبه ، فكان بذلك الزعيم الملهم للثورات وصانع الحرية ومعلمها في كل أنحاء العالم فهو يستحق بذلك كل التقدير والاحترام حيا وميتا . رحل مانديلا وترك وراءه شعبا ضحى من أجله بأعز ما يملك، لكنه ترك وراءه أيضا شعوبا في العالم العربي وفي دول المغرب الكبير تعيش تحت وطأة العبودية القاتلة، التي يبدو أنها لا تفارقهم وأصبحت لصيقة بهم ، فالشعوب تتعرض لكل أنواع الاستبداد من طرف حكامها ، الذين أتقنوا فن تركيع الشعوب ، وأرغموه على العيش في الذل إلى أن يشاء الله . حكامنا العظام أصحاب الفخامة في الاستعباد، لقنوا شعوبهم دروسا في الديكتاتورية وعلموهم الخضوع حتى أصبحوا يتمنون ألا يسقط هؤلاء وأصبحت الديمقراطية فوبيا يخشاها الصغيرو الكبير في أوطاننا العربية والإسلامية ، فعاد التغيير أمرا يقلق غالبية الشعب ، فإذا كان مانديلا قد حقق حلمه في القطيعة مع العنصرية البغيضة ، وأعطى للبشرية خير مثال في النضال والتصدي للديكتاتورية، فإن شعوبنا ما تزال تتخبط في ما هو أكبر من العنصرية، إنه الاستبداد الذي أصبحنا نتعايش معه صباح مساء ، في ظل ديكتاتوريات لا تعرف إلا لغة القوة والبطش . حكامنا الشرفاء لم يفكروا يوما في هذه الشعوب أن يمدوها بالديمقراطية ، وأن يتخلوا عن كراسيهم التي تستغيث منهم ، بل شعارهم الوحيد ائتوني بمنهج كفيل بتركيع الشعوب ، فمصلحة حكامنا ليست كمصلحة مانديلا الذي ضحى من أجل شعبه لمدة 27 سنة في السجن ، بل مصلحة هؤلاء الشخصية أكبر وأجل ولو كانت على حساب الشعب ، فكيف يضحي الحاكم العربي من أجل شعبه وهو المسؤول عن تركيع هذا الشعب ، بل كيف يقطع مع الفساد وهو المفسد الأول، حيث أموال الشعب التي من المفروض أن يتم توزيعها عليه بشكل عادل، يتم إنفاقها في غير موضعها ، حيث يسخرها الحاكم لحماية شخصه ، والتنكيل بخصومه في الداخل ، ثم تدبير المؤامرات لأعدائه في الخارج ، فلا مجال لهذا الحاكم للتضحية ولو بجزء يسير تجاه هذا الشعب أسوة بالزعيم الراحل نلسون مانديلا الذي قدم مثالا يحتدى به في التضحيات . هؤلاء الآن الذين تجدهم يشيدون بنضال الزعيم مانديلا والذين يترحمون على روحه زورا وبهتانا، هم أخر من يجب أن يتكلم عن هذا الرجل، لأنهم لم يعرفوا أبدا طعم الحرية كما عرفها الزعيم الراحل ، ولم يتعلموا التنازل وإشراك الآخر في بناء الأوطان بالمعنى الحقيقي الذي دافع عنه الزعيم ، فالحرية التي تحتاج إليها الشعوب ليست هي الحرية التي تبقى حبيسة دساتير أعدها الحكام في جنح الظلام ، وليست الحرية أن نرغم الشعوب على التطبيل للحاكم والدعاء له آناء الليل والنهار ، وإنما الحرية أن يعرف هؤلاء أن زمن الاستعباد قد ولى إلى غير رجعة، وأن الاستبداد لم يعد مقبولا على الإطلاق . متى يتعلم حكامنا تضحيات مانديلا ؟ومتى يعرفون أن السياسة تحتاج زعماء يقدرون شعوبهم وليس زعماء يستعبدونهم، عبر التمسك بالسلطة إلى أجل غير مسمى ، ومتى يدركون أن الوقت قد حان لمراجعة أفكارهم التسلطية التي تصور الحكام ملاكا للشعوب وللهوية والأوطان؟ إذا كان حكامنا يؤمنون بأن الاستبداد بالشعوب هو الحل الأمثل للاستمرار في الحكم فإنهم مخطئون ، لأن الاستبداد مهما طال فلا بد أن يزول وأن الديكتاتورية مهما بلغت من بطش فلا بد لها من نهاية، وغالبا ما تكون هذه النهاية مؤلمة ولنا في الزعامات التي سقطت في العالم العربي وفي دول المغرب الكبير خير مثال على ما نقول . تجربة مانديلا فيها ما يكفي من الرسائل الموجهة للأنظمة المستبدة التي ما تزال تستعبد الشعوب، وتضرب بيد من حديد كل من يطالبها بالديمقراطية ، وللشعوب التواقة إلى الحرية والتي تنتظر أن تعاد تجربة مانديلا ليس في جنوب إفريقيا هذه المرة ،وإنما في الأوطان العربية والإسلامية ، فرسالة مانديلا إلى الحكام هي بمثابة إنذار لهؤلاء المستبدين بأن وقت الرحيل قد حان ، وأن زمن العبودية تم القطع معه ، فالأفضل لهؤلاء أن يغربوا عن وجه الشعوب ويريحونها من شر ما اقترفت أيديهم قبل أن يأتي عليهم الدور فيصبحوا على ما فعلوا نادمين . أما رسالة الزعيم مانديلا إلى الشعوب في الدول العربية وفي دول المغرب الكبير فهي دعوة كل الأحرار إلى الاقتداء بتجربته العظيمة في التصدي للاستبداد، عبر النضال السلمي الذي أثبت نجاعته في القضاء على الديكتاتوريات ، وأن تتيقن أن النصر حليفها مهما طال ظلم هؤلاء الأنذال .