التاريخ يعيد نفسه، ولكن في سورية هذه المرة، والتاريخ الذي نقصده هنا هو التاريخ الأفغاني، وبالتحديد في الفترة التي شهدت ذروة الجهاد الأفغاني ضد النظام الشيوعي، والتدخل السوفييتي العسكري في ذلك الوقت لحماية النظام ودعم وجوده. الروس يدعمون النظام السوري ومعهم الشيوعيون الصينيون، بينما تقف امريكا والدول الاوروبية الى جانب المعارضة السورية المسلحة، وتقوم دول الخليج والمملكة العربية السعودية وقطر بدور الممول والداعم والمسهل لحركة وصول المجاهدين الى جبهات القتال. تركيا تلعب حاليا دور باكستان كمركز عبور للمجاهدين والأموال والأسلحة، وانطاكيا التركية تلعب الدور نفسه الذي لعبته مدينة بيشاور، اقرب مدينة باكستانية الى الحدود الافغانية، حيث ممر خيبر الاستراتيجي. ومن المفارقة ان الذي يشرف على مكتب 'قاعدة المجاهدين' في اسطنبول، ويلعب دور الدكتور الراحل عبد الله عزام ومساعده وتلميذه الأبرز اسامة بن لادن، وهو المكتب المتخصص في استقبال المجاهدين السوريين، مثلما كان يستقبل المجاهدين العرب المتطوعين للقتال في افغانستان، هو نائب لبناني يمثل حزب المستقبل، والذراع اليمنى للسيد سعد الحريري زعيم تحالف 14 آذار. ' ' ' المفارقة انهما 'علمانيان' وليسا اصوليين اسلاميين مثلما هو حال الشيخين بن لادن وعزام، الأمر الذي يكشف تناقضات عديدة في المسألة السورية ويزيدها تعقيدا. مشكلة المعارضة السورية المسلحة ليست قوة النظام، ولا هي نقص الاموال والاسلحة او تزايد اعداد المجاهدين الاسلاميين الذين يتدفقون الى الاراضي السورية من مختلف انحاء العالم الاسلامي، وانما في الانقسامات الكبيرة وحالة الفوضى التي تسود صفوفها، سواء تلك الداخلية او الخارجية. واذا صحت الانباء التي ذكرتها صحيفة 'الاندبندنت' البريطانية يوم امس من ان تركيا وقطر اوقفتا ارسال اسلحة الى الكتائب السورية المقاتلة في الداخل السوري، وخاصة منطقة حلب وادلب وغيرهما، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، بسبب تفاقم الخلافات فيما بينها، فإن هذا يعني ان عملية مراجعة تجري حاليا تجاه دعم هذه المعارضة تتسم بالجدية، وتحاول تجنب بعض الاخطاء الكارثية التي وقعت في افغانستان. الصحيفة البريطانية قالت ان البلدين، وربما بتحريض من واشنطن ودول اخرى، اشترطا توحيد المعارضة المسلحة تحت قيادة موحدة لاستئناف الدعم العسكري والمادي، ولكن لا نستبعد ان يكون هذا التوقف راجعا الى حالة من اليأس من القدرة على الحسم، اي اسقاط النظام في الايام او الاشهر المقبلة، والوصول الى قناعة شبه مؤكدة بأن الصراع قد يطول لسنوات. هناك بعض المؤشرات التي يجب التوقف عندها في محاولة رسم صورة لمستقبل الصراع في سورية: الاول: تقدم السيد رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي بعرض الى حزب العمال الكردستاني المعارض باستئناف مفاوضات السلام للتوصل الى تسوية توقف الحرب التي تجددت بكثافة في الاشهر الستة الماضية، بفضل الدعم الرسمي السوري كرد على الدعم التركي للمعارضة المسلحة. السيد اردوغان تقدم بهذه المبادرة اثناء الخطاب الذي القاه يوم الاحد في مؤتمر حزبه الحاكم، الأمر الذي يظهر انزعاجه وخوفه على تركيا واستقرارها وأمنها بسبب تفاقم الأزمة السورية، وتدخل بلاده فيها، وعدم ايفاء امريكا ودول عربية بوعودها في التدخل العسكري واقامة مناطق حظر جوي. الثاني: انتقال قيادة الجيش السوري الحر من الاراضي التركية الى حلب، او اجزاء منها تقع خارج سيطرة النظام، وبعد اسابيع من قرار السلطات التركية بترحيل لاجئين سوريين من منطقة انطاكيا القريبة من الحدود السورية، بعد حدوث صدامات مع الأقلية العلوية التركية. وهناك من يهمس في انقرة بأن السلطات التركية هي التي طلبت من العقيد رياض الاسعد مغادرة الاراضي التركية، ولم يكن قرار الانتقال الى الداخل رغبة منه. الضغوط العربية والغربية فشلت في توحيد المعارضة السورية الخارجية بفعل الخلافات المتفاقمة في صفوفها، وهذا ما يفسر التمثيل الضعيف للمجلس الوطني السوري، وتآكل الدعم السياسي له من قبل الولاياتالمتحدة والدول العربية، وقد تتجدد هذه الصعوبات وبشكل اكبر عندما تتكرر المحاولة نفسها مع فصائل المعارضة المسلحة في الداخل، التي تتكاثر بسرعة هذه الايام، ويتراجع التنسيق فيما بينها. المشكلة الأصعب في تقديرنا ان هناك جماعات اسلامية مسلحة جاءت من خارج سورية ومن دول اسلامية عديدة، وتملك خبرة قتالية فتاكة باتت تنفذ عملياتها الجهادية الموجعة ضد النظام بمعزل عن الجيش السوري الحر، وخارج سيطرة فصائل المعارضة التقليدية، خاصة جماعة الاخوان المسلمين التي تختلف منهجيا وعقائديا مع هذه الجماعات. تختلف التقديرات حول عدد ونفوذ وتأثير الجماعات الجهادية في سورية، فبينما يقدرها الرئيس الاسد في آخر احاديثه الصحافية بحوالى خمسة آلاف مقاتل، يرى العاهل الاردني انها ستة آلاف، ومن المؤكد انها تقف خلف التفجيرات النوعية مثل تلك التي استهدفت مقر هيئة اركان الجيش السوري في دمشق وغيره. الحرب في افغانستان كانت تجسد الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، حيث ارادت الاولى ان تنتقم لهزيمتها في فيتنام. اما في سورية فتريد الثانية الانتقام من هذا الانتقام الامريكي ومن خسارة حليفيها في العراق وليبيا. هناك من يقول بانها ايضا حرب اقليمية مذهبية بين السعودية من ناحية وايران من ناحية اخرى، ويتضح ذلك من خلال الانقسام الطائفي حولها في المنطقة العربية بأسرها. انتصرت امريكا في افغانستان بعد حرب استمرت ثمانية اعوام، وسقط ضحيتها حوالى مئات الآلاف من القتلى في الجانبين، مع التركيز ان الاغلبية كانت في صفوف الشعب الافغاني، ولكنه انتصار لم يكتمل، فقد اضطرت لخوض حرب ضد الارهاب اضطرت خلالها الى احتلال العراقوافغانستان، وخسرت اقتصادها والآلاف من جنودها، وقدمت البلدين هدية للاسلام الجهادي بعد ان انتهت افغانستان في قبضة طالبان. ' ' ' لا نستطيع ان نتكهن بالنتائج في سورية، ولكن من الواضح ان ايام النظام في دمشق ليست معدودة مع اقتراب الأزمة من نهاية عامها الثاني، ولم يعد احد يكرر هذه النغمة في الدول العربية والغربية الداعمة للثورة. الرئيس الاسد يملك في رأي الكثيرين بوليصة تأمين قوية من اجل البقاء وهي الاسلحة الكيماوية، الى جانب دعم قواته المسلحة وجانب من الشعب السوري، علاوة على ايران وروسيا وحزب الله، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو العمر الافتراضي لهذه البوليصة، وما اذا كانت مفتوحة لسنوات. التدخل العسكري الخارجي هو العامل الوحيد الذي قد يغيّر هذه المعادلة، ولا يلوح في الافق اي مؤشر عليه في الوقت الراهن، فأوباما لم يرد الحرب في ولايته الاولى، وقد تتعزز هذه القناعة في ولايته الثانية، ولذلك ستظل الأزمة السورية مفتوحة على جميع الاحتمالات والمفاجآت.