الصّيام من أجلّ العبادات وأفضلها، قال الله عزّ وجلّ: {شَهّرُ رمضان الّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ} البقرة: 185، فإنزال القرآن في شهر الصّيام علامة على فضله. قال اللَّهُ سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ''كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ'' رواه أحمد. فاستثناء الصّيام من دون بقية عمل ابن آدم، واختصاص الله عزّ وجلّ بمضاعفة الأجر عليه أضعافاً كثيرة بغير حصر ولا عدد، دليل آخر على شرف عبادة الصّيام. هذه الفضيلة تدعو العاقل لأن يعضّ على هذه العبادة بالنواجذ، ومع ذلك فإنّ أحوال النّاس تتباين مع هذا الشّهر الكريم، والمشاهد أنّ أحوال النّاس في الصّيام تدور بين العادة والعبادة، فما هو الفرق إذًا بين المتعبّد والمتعود في رمضان؟ فالمؤمن المحقّق للعبادة هو الّذي عرف أنّ الصّيام سرًّ بين العبد وربّه لا يطلع عليه غيره، وهذا المؤمن المحقّق لعبادة ربّه علم أنّ الصّيام كَسْرٌ للنّفس، فالشبع والري ومباشرة النساء تحمل النّفس على الأشر والبطر والغفلة، فإذا انكسرت النّفس تخلّى القلب للفكر والذِّكر، فتسكن بالصّيام وساوس الشّيطان وتنكسر سورة الشّهوة والغضب، ومن هنا بيَّن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ: ''الصّوم وِجَاء'' لقطعه شهوة النكاح. وصفة العمل الّتي يمتاز بها المؤمن الحقّ، تطبيقًا لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ'' أخرجه البخاري. فهذا المؤمن علم بأنّه لا يتم التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى بترك الشّهوات المباحة في غير حالة الصّيام، إلاّ بعد التقرّب إليه بترك ما حرّمه الله في كلّ حال، من الكذب والظلم والعدوان على النّاس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فانتهى عن كلّ ذلك ليسلم له صيامه من كلّ ما يمنعه من القبول. إنّ الصّائم الحق هو الّذي استبشر بدخول رمضان لعلمه بما يجده من اللّذة بصيامه ومن الأنس في قيامه، فنهاره كلّه يقضيه في الطّاعات بين تسبيح وتهليل وتحميد وبرّ وإحسان وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر... وغيرها من صنوف الطّاعات، وأمّا ليله فلا يتهجّع فيه إلاّ القليل، يقضيه بين الصّلاة، وتدبّر للقرآن والاستغفار بالأسحار، ما وصفهم الله سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ × وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الذاريات: 1718، فهو على هذه الحال طوال أيّام شهره ولياليه، فإذا دخل العشر الأواخر جَدّ كما كان يجدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ''شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ'' أخرجه البخاري، مستشعرًا قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ'' رواه البخاري، مستحضرًا نصيحته صلّى الله عليه وسلّم: ''فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ من رمضان'' رواه البخاري. فإذا كانت صبيحة العيد تحقّقت له أولى الفرحتين ممزوجة بالحزن، حين يصبح مفطرًا حامدًا لله على تمامه الصّيام حزينًا على فراق رمضان الذي قضى في كنفه طوال أيّام الشّهر، وهو لا يدري أيلقاه مرّة أخرى في عام قابل أم لا يكون ملاقيًا.