يشكل يوم 11 يناير 1944 إحدى المحطات الرئيسية في تاريخنا الوطني. فهو يوم أعلن به المغاربة عن إرادتهم الخوض من أجل الانعتاق من رقبة الاستعمار، ليس فقط ضد " الظهير البربري" ولكن ضد الوجود الاستعماري في شكله ومضمونه. ففي هذا اليوم، طالبت النخبة الواعية / المناضلة / المثقفة من الشعب المغربي ب "الاستقلال" وطالبت من الدول التي يهمها الأمر الاعتراف بهذا الاستقلال لضمان السيادة المغربية على الخريطة الدولية.
فماذا يعني الاستقلال في هذه الوثيقة...؟
-1-
في اللغة العربية، لا تعبر كلمة الاستقلال، عن مفهومها الحديث في السياسة، فهي في لسان العرب، لابن منظور تعني "استقلال طائر في طيرانه/ نهض للطيران وارتفع في الهواء... كما تعني ذهاب قوم ورحيلهم؟!" لأجل ذلك حصر المعجم الوسيط (مجمع اللغة العربية بالقاهرة) معاني هذه الكلمة في : "استقل طائر في طيرانه، واستقل القوم، أي مضوا وارتحلوا"/ واستقل فلان، أي انفرد بتدبير أمره أو استقل بأمره".
هكذا جاءت كلمة الاستقلال، حديثة الاستعمال في القواميس العربية، إذ لم يكن معناها معروفا في المجتمع العربي، ومن ثمة أدرجها علماء اللغة العربية، وأرباب المعاجم العربية في مصنفاتهم في الأزمنة المتأخرة.
ويؤكد العديد من المؤرخين(1)، إن الثقافة العربية استعارت المعاني السياسية لكلمة الاستقلال، من أوروبا، ومن علومها الإنسانية وبخاصة السياسية منها، فهي ترجمة لكلمة indépendance الإنجليزية، والتي تعني غياب التبعية، وهو المعنى الذي تأجج في الإعلام العربي، وفي الأدبيات السياسية ليصبح التعبير الفصيح/ البليغ عن الحرية والتحرر والانعتاق وعدم الخضوع لأية سلطة أو ضغط أو تأثير خارجي، في الأدبيات السياسية العربية.
-2-
وبعيدا عن المفاهيم اللغوية أصبح لكلمة الاستقلال مفاهيم سياسية وقانونية وفكرية أخرى على قدر كبير من الأهمية، سنحاول التوقف عندها باختصار لملامسة معانيها المتداخلة والمترابطة، على الساحتين الوطنية/ الدولة.
1/ الاستقلال السياسي: وينطوي على تمتع الدولة بالسيادة، أي مالها من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج(2).
والاستقلال السياسي، في مختلف المعاجم والموسوعات العلمية المعاصرة، هو المرادف لسيادة حق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية، بدون تبعية لدولة أخرى أو سلطة دولية، مع وجوب مراعاة القانون الدولي واحترام التزاماتها الاتفاقية.
وفي معجم المصطلحات القانونية(3) الاستقلال السياسي يعني تحرر شعب ما من نير الاحتلال بقوة السلاح، أو بأي وسيلة أخرى، وهو يختلف عن الحكم الذاتي، الذي يعني نظام اللامركزية في السلطة، يتمتع ببعض السلطات التنفيذية والتشريعية.
2/ الاستقلال المالي، ويعني الوصول إلى مرحلة الاكتفاء من المال الذي يمكن الدولة من تحمل تكاليفها المالية، الداخلية والخارجية، ويتطلب هذا الصنف من الاستقلال، وجود مؤسسات وهيئات مالية وإدارية وقانونية تحمي الحقوق المالية وتصونها.
3/ الاستقلال الاقتصادي، ويعني الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، ويتطلب أن يكون للدولة المستقلة ما يكفيها للعيش الكريم، من إنتاجات زراعية وصناعية وتجارية وغيرها، إذ يتجسد هذا الاستقلال في تحقيق إنتاج حقيقي من السلع والبضائع والخدمات لتغطية احتياجات المجتمع، وتصدير الفائض منه.
من هذه الزاوية، يصبح الاستقلال السياسي، في نظر العديد من الخبراء، مرهونا بتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وهذا الأخير يتطلب وجود إستراتيجية تنموية ناجحة وتخطيط اقتصادي يقوم على الإحصاءات والأرقام الصحيحة، إضافة إلى بيئة اقتصادية واستثمارية محفزة ومشجعة لرأس المالي الوطني.
وفي نظر العديد من الخبراء الاقتصاديين(4) أن البلدان التي تبلغ طور الاستقلال تكون الخطوة الأولي في استقلالها هي أن تجعل نظامها السياسي مستقلاً، بمعني أن تؤسس لها حكومات مستقلة عن نفوذ القوي الأجنبية، لا تكتفي بالسير في طريق الاستقلال الاقتصادي ذلك لأن هذا الاستقلال أصعب وأبعد منالاً من الاستقلال السياسي. أنه ليس من السهل قطع أواصر النفوذ والسيطرة الاقتصادية للقوي والدول الأجنبية. خارج الشروط الموضوعية، وأهمها الرصيد المعرفي/ الرصيد المالي/ الإرادة الصلبة. إذا أراد أي بلد السير في درب الاستقلال الاقتصادي لا بد له من طاقات بشرية كفؤة ومصادر تدرّ عليه العائدات، وإمكانيات هائلة، وعلوم وتخصص وتعاون علمي وصناعي دولي، والكثير من الأمور الأخرى، المتصلة بالعلوم الاقتصادية.
4/ استقلال القضاء، ويعد من المقومات الثابتة والأساسية لأي نظام سياسي، فهو ضمانة أساسية لتعزيز قيم الاستقلال السياسي والفصل بين السلطات ونبراس لحماية الحريات والحقوق الفردية، حيث يعمد إلى الحيلولة دون طغيان إحدى السلطات على الأخرى، أو اعتداء من طرف السلطة التنفيذية على الحقوق والحريات، أو مخالفة القوانين الدستورية(5).
5/ الاستقلال الثقافي، وهو الطريق إلى الاستقلال الكامل للأمة، فهو في نظر العديد من المثقفين الخبراء، يكاد يكون مرادفا للمحافظة على الشخصية الوطنية، وعلى هويتها.
وتبرز أهمية الفعل الثقافي والدور الذي تلعبه المؤسسات المعنية في تحصين استقلال البلاد، من خلال تحول الثقافة وفاعليتها إلى خط دفاع أول عن هوية المجتمع ضد الغزو الذي يكسر البنى الاجتماعية التي تستند عليها مختلف البنى الأخرى والتي تجسد هوية المجتمع في صورها المختلفة.
-3-
بذلك، يأتي الاستقلال في مفاهيمه المختلفة، مرادفا للحرية، فهو سياسيا/ ماليا/ اقتصاديا... وثقافيا، يعني انعتاق الإرادة من قيود تحد من حركتها ومن قدرتها على التقرير بنفسها ولنفسها(6).
الدولة المستقلة بهذا المعنى، ليست حرة في إرادتها فحسب، ولكنها قادرة أيضا على ممارسة مفاعيل حريتها في نطاق إقليمها، وعندما تعجز الدولة لسبب داخلي أو خارجي عن ممارسة سيادتها/ أي إرادتها، يصبح استقلالها منقوصا/ مجوفا/ عديم الفائدة.
ومن أجل حماية الاستقلال، لا يكفي أن يكون للدولة نظاما اقتصاديا، أو إستراتيجية ثقافية، بل عليها أن تبني جيشا قويا لحماية وجودها وسيادتها، وأن تدخل في تحالفات عسكرية/ اقتصادية/ سياسية مع دول أخرى لضمان أمنها القومي/ أمنها الثقافي وسلامة وجودها الدولي.
في نظر أحد الخبراء(7) أن شرط الاستقلال، هو حرية الإرادة وسلامة الوجود/ حماية الخصوصية/ حرية العمل/ القدرة على التمتع بالحقوق النابعة من تلك القيم جميعا والمتلازمة معها.
*****
1 - نجيب السامسي/ مقالات في المفاهيم السياسية جريدة الكويت/ اكتوبر 1986.
2 - الدكتور بدوي/ معجم المصلحات السياسية والدولية.