وصلني الكتاب عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ودفعني حماس بعض الأساتذة له إلى قراءته، وبسبب الضجة التي أثيرت حوله، افترضت أنه على قدر كبير من الأهمية والخطورة. لكن حين شرعت في قراءة الكتاب استغربت أن يكون من 283 صفحة بدون هوامش ولا إحالات ولا حتى لائحة للمصادر والمراجع (وهي أشياء لا يخلو منها أي بحث مهما كان بسيطا) مما دعاني إلى البحث عن مؤلف الكتاب؛ وكان أول ما وجدته فيديو لحوار أجراه مع منبر إعلامي هذا رابطه: https://www.youtube.com/watch?v=uZPBdy4AO6U
ابتداء من الدقيقة 02:13 يتحدث الكاتب عن مغادرته المدرسة قائلا: "وأنا أفتخر، وليس لدي ما أخفيه بأنه ليست لدي أي شواهد تذكر، فأنا ابن الثانية إعدادي، غادرت المدرسة وعمري... كنت أبلغ حينها من العمر 13 سنة، وبدأت في تكوين نفسي، وأنا الآن صحفي بجريدة رسالة الأمة، اشتغلت سابقا بجريدة المساء، [...] رئيس الفيدرالية الوطنية المغربية للفنون والآداب، المدير العام لصالون رباعية الأنس، وأيضا باحث في علم مقارنة الأديان، وفي نقد التراث الديني، و.. يعني... أشغل منصب الكاتب الجهوي لنقابة الصحافيين المغاربة بجهة مراكشآسفي."
وعند الدقيقة 09:45 يتحدث عن منهج كتابه فيقول بأنه عمل على إخضاع صحيح البخاري لعلم "الكوديكولوجيا" [أي علم المخطوطات].
وقد تركت جانبا مسألة التكوين العلمي والمستوى الأكاديمي، وأحسنت النية بالرجل، فقلت إنه قد يكون فعلا ملما بعلم مقارنة الأديان وعلم المخطوطات معاً. وأكملت قراءة الكتاب، على فرض أنه قد وظف منهجاً علمياً في مناقشة صحيح البخاري. لكني لم أجد من علم مقارنة الأديان (أو الدين المقارن) غير إشارتين سريعتين (خاليتين من الأمثلة) الأولى حديث عن تشابه بين الديانة الزرادشتية (المجوسية) وبين أحد الأحاديث دون إشارة إلى المصدر، أو حتى إعطاء مثال عن هذا التشابه. والثانية تلميح إلى أن مكانة البخاري في الإسلام هي كمكانة القديس بولس في المسيحية، وفي هذا الكلام كثير من المغالاة التي لا دليل عليها. وهي مقارنة غير علمية وغير دقيقة.
أما علم المخطوطات فلم أر من ملامحه في الكتاب غير إيراد بعض صور المخطوطات وبطاقات تقنية لها وقد قصر المؤلف ذلك على الفصل الخامس والأخير من الكتاب من ص169 إلى 239 دون تحليل دقيق لهذه الوثائق.
كما أن الباحث يبني استنتاجاته على أفكار أخذها من صفحات الفيسبوك (ص45) أو بعض المواقع والمنتديات (ص، 49، و111)
ولا أستغرب غياب الدقة العلمية في الكتاب، فبناؤه يفتقد أبسط شروط البحث العلمي، ويكفي أن يلقي القارئ الحصيف على الكتاب نظرة فاحصة ليرى مدى الخلل المنهجي فيه.
هذا عن البناء والمنهج، أما الأفكار ففيها الكثير من المغالطات المنطقية والأخطاء. ناهيك عن أحكام القيمة والأفكار الجاهزة، وفيما يأتي بعض الأمثلة عنها:
يقول الكاتب في الصفحة الثامنة: "وأنا كغيري من الباحثين توجهت في بداياتي إلى التنقيب في هاته الأحاديث المروية في صحيح البخاري فوجدت أن المئات منها تحبل بكوارث خطيرة، فمنها ما يسيء إلى مقام الألوهية [...]"
ولم يذكر الباحث أي مثال لهذا النوع من الأحاديث المسيئة إلى مقام الألوهية، ناهيك عن أننا لا نعرف له "بدايات" في "التنقيب في الأحاديث المروية" فعلى حد علمي هذا أول كتاب له. ورغم كونه كتابا متواضعا إلى حد كبير لا أخفي استغرابي من تضخيم الناشر لحجمه الكتاب في المقدمة حين يقول أنه:
"استطاع أن يجمع ما توصل إليه من مصادر أهل السلف ما لم يسبقه إليه أحد، فخرج بهذا الكتاب الجامع" ص 10
وهذا التضخيم في حجم الكتاب ليس مقصورا على الناشر وحسب، فحتى إعلان صدور الكتاب مختلف المواقع الإخبارية ضم قدرا كبيرا من المبالغات التسويقية من قبيل:
"ومن شأن هذا الكتاب أن يثير جدلا موسعا ونقاشا قويا في الساحة الفكرية على مستوى الوطن العربي والإسلامي عند صدوره، كما يشكل هذا الكتاب قفزة نوعية الى الأمام في سلم الارتقاء بالنقاش إلى مستويات علمية وأكاديمية عالية."
ولا أرى كيف يشكل الكتاب نقلة إلى مستويات علمية وأكاديمية عالية وهو لم يصدر عن أهل الاختصاص ولا اعتمد صاحبه منهجا علميا أو أكاديميا. والواقع أن الكتاب -بما فيه- لا يحمل جديدا وأطروحته ليست على ذلك القدر الذي يدعيه من الجدة، فهو صادر سنة 2017 ويحمل أفكارا ناقشها الدكتور عدنان إبراهيم في خطبة له سنة 2012 هذا رابطها:
https://www.youtube.com/watch?v=L1rZARCOevs
كما يدعي الكاتب أشياء لا وجود لها حين يقول في الصفحة الثامنة مثلا:
"تم حمل سلاح التفسيق والتكفير والزندقة في وجه كل من ينكر أحاديث في هذا الكتاب أو يوجه إليها سهام انتقاداته، حتى لو عارضت متونها كتاب الله الموحى إلى نبيه، فصار لدينا كتاب فوق النقد وفوق
العلم، وفوق العقل بل فوق القرآن نفسه لدى معظم الشيوخ مع كامل الأسف"
وهذا كلام فيه الكثير من التعميم والمغالطة، ليس فقط لأن أول أصول التشريع هو القرآن الكريم في كل المذاهب الإسلامية، ولا لأن كتاب البخاري لم يكن قط مقدساً عند علماء المسلمين، بل لأن هؤلاء العلماء أنفسهم قد صححوا أحاديث في الصحيحين ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، يحيى بن معين، ومنهم شيخ البخاري علي بن المديني، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وابن خزيمة، وابن عبد البر، والبيهقي، وأبو داود السجستاني، والترمذي، والعقيلي، والنسائي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام مسلم... واللائحة تطول...
لكن الكاتب "الباحث" لم يبحث عن هؤلاء وظل مصرا على أن "شخصية الإمام البخاري -في حالة وجود شخصية بهذا الاسم- [...] أحيطت بهالة من التعظيم والتقديس لدرجة أنه يمنع عليك أن تفكر في نقدها أو الاقتراب منها" ص 12
كأني بالباحث يجهل -أو يتجاهل- قاعدة علم الحديث وهي أنه ليس هناك قطع بصحة الحديث أو ضعفه، وإنما المدار على اجتهاد العلماء، واجتهاد كل عالم له من يرده ويرى الأصوب منه، وقد ذكر هذا الإمام الحافظ العراقي في ألفيته في علم الحديث حين قال:
وفي الصحيح والضعيف قصدوا// في ظاهر لا القطع والمعتمد
لكن يحلو للباحث أن يلصق مثل هذه التهم بالعلماء والشيوخ يقول:
"والأخطر من ذلك أن هؤلاء الشيوخ لم يطرحوا على أنفسهم، ولو لحظة في خلوة مع الذات، لماذا تأخر تدوين السنة لحوالي مائة سنة على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بهاته القيمة في التشريع؟" ص21
لاحظ -عزيزي القارئ- كيف يبالغ الرجل في الجزم بأنه سباق إلى التفكير في هذه القضية "الخطيرة"، ويحكم -عن غير علم- على العلماء أن
أحدهم لم يسأل "ولو لحظة في خلوة مع الذات". ثم يعود ويناقض حكمه حين يصل إلى مبحث سماه "عذر أقبح من زلة" فيتحدث عن المبررات التي قدمها العلماء لتأخر تصنيف الحديث، ويذكر من الروايات ما يخدم غرضه وحسب، ويهمل الروايات التاريخية القائلة بأن من الصحابة من أذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام بتدوين الحديث لأنها لا تناسب ما يرمي إليه من كتابه. وما هذا إلا انحياز تأكيدي (Confirmation bias) وهي مغالطة منطقية شائعة.
ناهيك عن التعسف في تحليل بعض الظواهر حين يقول الكاتب في الصفحة 24 مثلا:
"وما داعش التي نبتت بين ظهرانينا إلا نتاج هذه المرويات المنسوبة لرسول الله زورا وبهتانا حيث تم سحب القرآن من الساحة لصالح هذه المرويات، ولم يكفهم كتاب الله"
لم يبلغ إلى علمي أن القرآن الكريم قد سحب من الساحة، ولا أرى في هذا الكلام إلا مبالغة غير منطقية في إلصاق التهم بالحديث، فالأحاديث -حتى الموضوعة منها- لم تكن يوما السبب في ظهور الجماعات الإرهابية، أو في الصراع المسلح حول السلطة، وإنما السبب في ذلك طبيعة الإنسان نفسها (بالإضافة إلى مجموعة معقدة من العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية...) ولا يمكننا أن نبسط المسألة فنرجع ظاهرة معقدة كالإرهاب إلى بضع نصوص (مكذوبة أو صحيحة) مبثوثة في كتب الحديث وهذا نوع من الانحياز المعرفي (Cognitive bias) قائم على البحث عن أسباب لتفسير الظاهرة التي تشكل -بالنسبة إلى عقل الباحث- نتيجة مخيفة يريد أن يعزوها إلى سبب معين.
ولعل أخطر مغالطة منطقية ينبني عليها الكتاب هي "الشخصنة" (Ad Hominems Attacks) لأن الكاتب لا يناقش ما ورد في صحيح البخاري من أحاديث وإنما يتهمه بالكذب والافتراء على الرسول تارة، وبالنقل عن الكذابين تارة أخرى، بل ويصل به الأمر إلى التشكيك في وجوده أصلا. ويكفي أنه سمى الكتاب نهاية أسطورة، وخصص الفصول
الأربعة الأولى للهجوم المباشر على شخص البخاري فيما ترك فصلا واحدا (أو على الأصح أجزاء منه) لعرض الحجج والأدلة. كما أنه وظف لغة فيها الكثير من العاطفة، يقول مثلا في الصفحة 160: "كي ندق في نعش صحيح البخاري آخر مسمار".
ويهاجم البخاري لأصله الفارسي، مشككا في قدرته على تعلم اللغة العربية، أو حفظ الحديث وهو ابن عشر سنوات (ص164) ناسيا أن أبا نواس أشهر شعراء العصر العباسي كان فارسيا، وسيبويه واضع علم النحو فارسي، وغيرهم كثير من العلماء والمبدعين، وأن الأصل العربي لم يكن يوما شرطا لإتقان اللغة أو لطلب العلم.
كما ينقل في الصفحة 98 أبياتا لأحد الشعراء في مدح صحيح البخاري، ويعلق قائلا:"فانظروا بعد هذا الكلام ماذا بقي لكتاب الله من التقديس؟". يعد المؤلف إذن مديح الشاعر لكتاب البخاري تقديسا، ويستكثر عليه المديح، وينسى أن كتاب سيبويه قد سمي "قرآن النحو" فهل يا ترى كان كتابه مقدسا هو الآخر؟.
والحق أني ندمت على قراءة الكتاب وكان الغضب هو ما دفعني لأن أكتب عن أخطائه، من وجهة نظر البلاغة وتحليل الخطاب (وهو مجال تخصصي)، وكلي ثقة أن المتخصص في علم الحديث أو علم المخطوطات أو علم الدين المقارَن سيجد من الهنات والعيوب المنهجية أكثر مما وجدت.
لم يكن القصد من مقالي هذا إقفال باب النقاش الذي يريد الكاتب فتحه، فلا حرج في نقد التراث وفحصه وتمحيصه، ولكن الحرج -كل الحرج- في غياب المنهج العلمي، وإطلاق الكلام على عواهنه بغير علم ولا دراية ولا معرفة أكاديمية. لذلك كان نشر مثل هذه الكتب إساءة إلى الكتاب والباحثين الذين يتعبون في صياغة دراسات أكاديمية محكمة، ويعتمدون مناهج علمية دقيقة.