عندما كنا في السلك الثاني من الثانوي، كان أستاذ الاجتماعيات قد كلفنا بإعداد قوائم للعائلات التي تعتبر نفسها من الشرفاء. وقد أحضر أحدنا، وكان ممن يدرجون ضمن الشرفاء واسمه عبد العزيز الزرهوني، قائمة ضمت أكثر من أربعين اسما أذكر منها : التازي، الكتاني، آيت الناجي، الوزاني، الأمراني، العمراني، الباعمراني، الصقلي، العلمي، الطاهري، العراقي...الخ، وكل منها يتفرع إلى فروع أخرى. وفي تحليل الأستاذ لتلك القوائم وهو أستاذ مغربي تبين أن الانتساب إلى منطقة معينة، لا يمكن أن يكون مبررا لتضمينه في زمرة الشرفاء. فهل كل من سكن وزان، أو زرهون، أو تازة، أو جاء من العراق... يعتبر شريفا؟
كما نبهنا الأستاذ إلى مسألة أخرى، مهمة وخطيرة في نفس الوقت، وهي أن نسبة عدد الشرفاء في المغرب إلى مجموع السكان، تفوق بكثير جدا نسبتهم إلى عدد السكان في أي دولة أخرى من الدول العربية أو الإسلامية، رغم أن الأصل الأول للشرفاء في المغرب هو شخص واحد ؛ هو إدريس الأكبر، الذي حل بالمغرب سنة 172 ه ، وهو من الجيل الرابع من سلالة علي بن أبي طالب ، (فهو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) .
فهل كان إدريس الأكبر (أو الأول) هو وحده الذي يلد من بين كل مآت الشرفاء من إخوانه وأبناء عمومته الذين خلفهم في المشرق ، حتى تصبح نسبتهم العددية في المغرب تتجاوز بكثير نسبتهم العددية في المشرق؟
بل أكثر من هذا وأبلغ، هو ما يمكن أن يقال عن نسبة عدد الشرفاء المغاربة الحاليين إلى عدد السكان الأمازيغ ، فهذه النسبة ولو أننا لا نتوفر على إحصائيات رسمية، وإنما هي تقديرات تكاد توحي بأن أبناء إدريس الأول كانوا يتوالدون بكثافة خارقة، بينما الأمازيغ الذين كانوا في شمال إفريقيا معاصرين لإدريس الأول ، والذين كان عددهم يزيد عن المليون نسمة دون شك؛؛ كانوا لا يخلفون إلا ولدا واحدا في كل أسرة في كل عشر سنوات؛ أو أقل من واحد ، لأننا بالمقارنة بين نسبة الشرفاء في المغرب، وهم وافدون عليه من المشرق منذ حوالي اثني عشر قرنا بأعداد ضئيلة جدا تعد على رؤوس الأصابع، نجدهم قد خلفوا خلال هذه الاثني عشر قرنا نسلا أصبح يمثل اليوم ما يقارب اثنين أو ثلاثة
بالمائة من عدد سكان المغرب، مع أنهم في الأصل كانوا يمثلون واحدا على مآت الآلاف من السكان. وإذا قمنا بعملية حسابية تقديرية أو افتراضية، وهي مسألة ممكنة يجيدها الحيسوبيون، لتقدير مجموع ما يكون قد أدركه إدريس الأول على مدى اثني عشر قرنا من التكاثر،، وعدد النسل الذي يكون قد خلفته القبائل الأمازيغية التي كانت معاصرة له طوال هذه المدة نفسها ، فإن نسبة الأبناء من نسل إدريس الأول، أو من أبناء عمومته، يجب أن تكون أقل بكثير جدا مما هي عليه اليوم. لأن الفرق بين نسل إدريس الأول ومن جاء بعدهم من أبناء الحسن بن علي، ونسل الأمازيغ يتضاعف بعد كل جيل بمآت المرات، في متوالية هندسية من السهل على الرياضيين معرفة مضاعفاتها.. بينما الملاحظ هو أن نسبة الشرفاء الآن تفوق العدد المحتمل بآلاف المرات. وهذه القراءة بطبيعة الحال ليست مبنية على نتائج علمية مضبوطة، نظرا لغياب إحصاءات دقيقة ورسمية، ونظرا للحاجة إلى رياضيين وعلماء مختصين لدراسة تكاثر الأنسال عبر العصور، ولكنها مع ذلك تبقى قريبة من الواقع، لأن الملاحظة تزكيها.
إن الشيء الخطير في الأمر، هو أنه خلال فترة الاستعمار وحدها تضاعف عدد الشرفاء حسب مرويات الأجداد بعشرات المرات، حيث كان يكفي أن يذهب الشخص عند النقيب (أو المزوار كما يصطلح عليه عند الشرفاء) برشوة صغيرة ليدرج اسمه ضمن قائمة الشرفاء، ويعطيه شجرة منتحلة، ولكنها تصبح مع الزمن صحيحة لا يمكن الطعن فيها، خاصة إذا كان ذلك الشخص من المقربين لعائلة شريفة، فينتحل اسم ولدٍ من أفرادها؛ يكون في الغالب متوفيا، أو عقيما، أو ولودا، أو متعدد الزيجات، ليصبح شريفا أبا عن جد ، حيث يزداد هذا الانتساب قوة بمرور السنين وتوالي الأجيال.
ومعلوم أنه قبل فترة الحماية لم تكن هناك دفاتر للحالة المدنية ولا بطاقات تعريف رسمية، فكان يمكن لأي شخص أن يدعي أي نسب يريد، ويطلق على نفسه اسم مولاي فلان، فيصبح شريفا، خاصة إذا كان يحفظ شجرة إحدى العائلات إلى الجد الرابع أو الخامس، وهو أمر كان ميسرا لكثير من الراغبين.
ومما يزيد من سهولة انتحال نسب شريف انتقالُ الشخص من منطقة إلى أخرى، حيث يدخل المنطقة الجديدة باسم مولاي فلان بن فلان الإدريسي أو العلوي أو العلمي أو الوزاني أو غير ذلك، ثم يقيم في تلك المنطقة بهذا الاسم المنتحل حتى يترسخ مع الزمن، ثم يزداد الأمر سهولة ورسوخا عندما يزداد له ولد، حيث يحمل هذا الولد الجديد اللقب الشريف المنتحل منذ ولادته ، فيصبح ذلك اللقب مكتسبا وراثيا، يتوارثه أولاده من بعده، وبذلك تصبح تلك العائلة من الشرفاء أبا عن جد، بشهادة سكان تلك المنطقة ، وبمعرفتهم أن جدهم هو المرحوم مولاي فلان بن فلان المعروف بالمنطقة منذ خمسين سنة أو أكثر.
ولا نبعد كثيرا ؛ فإلى عهد قريب كان بعض النقباء يتلاعبون في الأنساب بشكل كان يثير في كثير من الأحيان حفيظة الشرفاء الحقيقيين، دون أن يستطيعوا له ردا، لأنهم كما سمعت من جدي رحمه الله لا يمكن أن يُحيوا الموتى ليسألوهم عن عدد أبنائهم وأسمائهم، علما بأن كثيرا من الشرفاء كانوا متعددي الزيجات.. أو كانوا يشتغلون بالتجارة المتنقلة، فيخلفون أولادا في البلد الثاني الذي يطيلون فيه الإقامة .
ومن المعلوم تاريخيا أن نسب العائلات الشريفة إلى الرسول عليه السلام، إنما هو على سبيل التجوز، لأنهم في الأصل من نسل علي بن أبي طالب بن عبد المطلب زوج فاطمة الزهراء، وقد عُرف العرب بانتسابهم لآبائهم وليس لأمهاتهم ، وذلك ما نص عليه القرآن الكريم في سورة الأحزاب بقوله :
((ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)) ؛ كما يؤكده الرسول نفسه فيما روي عن قوم من كندة قالوا له : أنت منا ، فقال : « لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا »
غير أننا في نسب كل العائلات الشريفة نتحول من طريق الأب إلى طريق الأم عند الحسن أو الحسين ابني علي، ثم نعود بعد هذا التحول إلى النسب الأبوي، بعد أن نتخطى عليا وأبا طالب، لنُحِل محلهما فاطمة الزهراء ومحمدا وعبد الله . فنقول مثلا في نسب شخص من هذه السلالة : هو أحمد بن علي بن محمد بن إدريس بن الحسن بن فلان.. بن فلان.. إلى أن نصل إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، فنحول الاتجاه، ونقول : ابن الحسن بن فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله . أي أننا نحول الشجرة من فرع إلى فرع . فنتحول من الانتساب للأب، إلى الانتساب للأم، ثم نعود إلى الانتساب للأب من جديد، فنقول : ...ابن فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ...الخ . وبذلك نعتبر أن سلالة أبي طالب، والد علي قد توقفت عند ولده علي، لتتحول في ولديْ عليِّ الحسنِ والحسينِ (حفيديه صُلبا) إلى الانتساب لبنت الرسول، ثم للرسول عليه السلام، الذي لم يخلف ولدا ذكرا يستمر معه نسله .
غير أن كل هذا يبقى في العصر الحاضر مجرد تاريخ، لا أراه ما يزال على ما كان له من أهمية في العصور الإسلامية الأولى ، حيث كان العرب شغوفين بعلم مُثقلٍ بالأكاذيب والزيادات وحتى الخرافات، يسمونه علم الأنساب ؛ مع أنه ليس له من مواصفات العلم وشروط صحته قلامة ظفر، لما شابه من التشويش والخلط، ولما هيمن عليه من وضع واختلاق، حتى على مستوى التاريخ عندما يقرأه الناس، حيث من أغرب مسائل هذا العلم، أننا لو تتبعناه عند النسابة العرب في العصر الأموي أو العباسي، ثم سرنا معهم به إلى منتهاه ، فسنجد أنه يوجد بيننا اليوم أشخاص يعرفون نسبهم أبا عن جد من زماننا هذا إلى آدم عليه السلام بدون انقطاع.
فإذا أخذنا مثلا نسب والدتي رحمها الله، وهي علوية، وتتبعناه في واحد من أهم كتب الأنساب، وهو (كتاب نسب قريش) للمصعب الزبيري ، فإنني أستطيع أن أرفعه بتسلسل تاريخي غير منقطع إلى أدم؛ قسم منه موثق تاريخيا وهو الذي منها إلى الرسول عليه السلام، والقسم الثاني متفق عليه بين النسابة وهو الذي من الرسول إلى عدنان، الذي هو الجد العشرون للرسول، ثم يأتي بعدهما القسم الثالث حيث يرفعه النسابة من عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم، ثم من إبراهيم إلى نوح، ومن نوح إلى إدريس، ومن إدريس إلى آدم. وهكذا تكون والدتي تعرف أسماء كل آبائها من وقتها إلى عهد أبيها الأول آدم. وكذلك أنا، فإنني بفضلها أعرف نسبي من جهة الأم، أبا عن جد، من جدي المهدي إلى آدم؛ بحيث لو يسألني أي شخص عن جدي رقم 73 من جهة الأم ، فسأقول له : هو فلان بن فلان إلى أبينا آدم وأمنا حواء.
شيء مضحك فعلا !
ولكن الأكثر إضحاكا، وحمقا، هو أن هؤلاء النسابة يختلفون في سلسلة هذا النسب من عدنان إلى إبراهيم، فيقدمون ويؤخرون، ويضيفون وينقصون؛ كل حسب مصادره ومعارفه، ولكنهم يُجمعون على صحة تلك السلسلة من إبراهيم إلى آدم، ولا يختلفون حولها.
يقول المصعب الزبيري في كتابه المذكور :« وأجمع أهل النسب ، لا اختلاف بينهم ، أن إبراهيم بن آزر بن التاجر بن الشاجع بن الراعي بن القاسم، الذي قسم الأرض بين أهلها، ابن يعبر بن السائح بن الرافد بن السائم ، وهو سام، ابن نوح نبي الله ، ابن ملكان بن مثرب بن إدريس نبي الله عليه السلام بن الرائد بن مهليل بن قنان بن الطاهر بن هبة الله بن شيث بن آدم أبي البشر صلى الله عليه وسلم » ، مع أننا عندما نعود إلى تاريخ الأدب العربي، نجد الرواة الأقدمين يرجعون أقصى معرفتنا بالعصر الجاهلي لا تزيد في حدها الأقصى عن قرن ونصف. الذي يضحكني في هذه السلسلة هو غباء واضعها، فقد افترض أن الناس كانوا يتكلمون اللغة العربية منذ آدم إلى عصره، فكانوا يسمون أسماء عربية، كالقاسم والرائد والطاهر وهبة الله، مع العلم أن إبراهيم نفسه لم يكن يتكلم العربية، ولا من جاء بعده من أبناء يعقوب، وأن التوراة والزبور والإنجيل وصحف إبراهيم قبلها، لم يكن شيء منها بالعربية. فيا لفظاعة الوضع والكذب ! فإذا أضفنا إلى هذا ما أخذ يظهر في السنوات الأخيرة من نتائج تحاليل الحمض النووي لبعض أفراد من تلك العائلات الشريفة المغربية ، فإننا سنجد أنها تنسبهم إلى الأمازيغ، وليس إلى سلالات مشرقية، لأن جيناتهم تقع ضمن الهابلو جروب الخاص بالأمازيغ ذي الرمز الجينومي : ( V257 ) . وحتى قبائل الركيبات التي تعتبر نفسها أنها لم تخالط غيرها كثيرا، وتقول بأنها تنحدر من أصول مشرقية ؛ فقد أظهرت نتائج تلك التحاليل أنها لا تمت للمشرق بصلة، بل هم ينحدرون من آباء أمازيغ (1) .. وعلى كل حال ، فإن العصر لم يعد عصر تفاخر بالأنساب، ولا ادعاء بصفائها، وأعتقد أنه لم يعد على وجه الأرض من يستطيع أن يدعي أن نسبه ظل قحا صميما ، لأن تداخل الشعوب والتلاقح بين الأمم كان وما يزال منذ أقدم العصور، وهو عامل قوي في الوراثة الجينية وتعديلاتها، بحيث يكفي أن نذكر أن كل الجيوش التي كانت تخرج بالآلاف أو عشرات الآلاف لغزو شعوب ودول أخرى واستعمارها، لم تكن في غالبيتها تجلب معها نساءها ، بل كان الجيش المنتصر عندما يحتل الدولة المغلوبة ، فإن أول ما يبادر إليه هو الانقضاض على نسائها وثرواتها؛؛ ومع بقائهم في تلك الدول لإقامة نظام الحكم الجديد فيها، فإنهم يتزوجون منها ، فيحمل أبناؤهم نصف مورّثاتهم الجينية من آبائهم والنصف الآخر من أمهاتهم، ثم يتقلص النصف الموروث عن الأب عندما يتزوج ولده من سيدة من بنات تلك الأمة المستعمَرة، حيث تصبح نسبة مورثات الجد الجينية في حفيده أقل منها عند ولده ، .. وهكذا يستمر التلاقح والتداخل بين المورثات عبر الأجيال المتعاقبة، حتى لا تبقى إلا نسبة ضئيلة تحيل على الأصول الأولى التي تشير إلى الجنس، وليس إلى السلالة، والتي تعود إلى آلاف السنين، أو عشرات الآلاف؛ مما تحوّل معه ما كان يعرف بعلم الأنساب قديما إلى علم الوراثة أو الوراثيات (La génétique) حديثا، وهو العلم الذي ما تزال بعض الدول العربية والإسلامية لا تعترف به في منظومتها القانونية، بحيث عندما تُطرح على محاكمها قضية في تحقيق النسب، فإنك تجدها إما أن تحكم بان الولد للفراش، حتى ولو أثبتت نتائج تحليل الحمض النووي أنه ليس من صلب صاحب الفراش، ،، أو تراها ترفض نسبته لوالده البيولوجي، لانعدام وجود عقد زواج شرعي، حتى ولو أثبت تحليل الحمض النووي تلك النسبة؛ وهي صورة قاتمة أخرى لتخلفنا، وتمسكنا بثقافة قرون بادت وانتهت، لم تعد صالحة لهذا العصر، ولا قادرة على مواكبة التطور العلمي الذي يعرفه.
1 للوقوف على بعض نتائج تلك التحاليل ، يمكن الرجوع إلى هذا الرابط :