من أجمل قصص الحب والعشق في زماننا ما نسجتهُ عفوية الأقدار بخيوط من ذهب بين كاتبين مرموقين ألّفهما حبُّ القلم وعشقُ الكلمة، يتعلق الأمر بالكاتب اللبناني جبران خليل جبران والكاتبة مي زيادة ذات الأصول الفلسطينية، فما كان يجمع بينهما هو حبٌّ عذري أفلاطوني لا ريب فيه، خالص من كل الشوائب، زاخر بكل آيات الجمال والجلال، وصفه العارفون به بالحب السماوي الذي عجزت الأرض على احتوائه فرفرف بجناحيه إلى السماء، ولعل ما أصبغ هذا الحب العذري السماوي بصبغة الانبهار ما كان لطرفيه من سلطة هادئة على جمالية الكلمة وتصويرية الأحاسيس الجارفة والعواطف الصادقة المُنزّهة عن دونية المادة، فلم تلبث هذه السلطة أن حلّقت بمن ينبشُ في خبايا هذا العشق المجنون نحو عوالم مثالية منفصلة عن كل ما لا يُرغبُ فيه، لا يُفتحُ مجالها الرحب سوى للمشاعر الطاهرة والأحاسيس النبيلة لتُقيم على أرضها صرح الحضارة، وإذا كانت العلاقة بين مي وجبران قد اتصفت بالغرابة والندرة في غايتها، فهي أولى بأن توصف بذلك، وأجدر بأن تصير نبراسا للسابحين في أغوار الحب والعشق دونما عبرة ولا دراية. وإذا كان جبران ممن يؤيدون فكرة الكلمة في قدرتها ومقدرتها على أن تُحدث ما تُحدثه القذائفُ والبراكينُ، فإن قوة هذه اللغة تلين وتذوب أمامه بقدرة قادر بمجرد أن تبدأ أناملُه بمداعبة كلماته العابرة للقارات من أمريكا إلى القاهرة، في رسائل حب لم تتوقف لعشرين ربيعاً. وإذا كان جبران في طفولته قد قضى ما قضى من مِحن الحياة فيما عُرفَ على والده من مُجونٍ وانحراف أتى على الأخضر واليابس من ثروته، فإن ذلك لم يمنع عودا من التفرّع والاخضرار حتى غدا إلى ربيع يُزيّن حدائق العمر، تُورِق أغصانُه أوراق حُبٍّ خالدة، تأتي على الجرح فتداويه، وعلى الجفاء فتداريه، لترحل بعد ذلك مُحمّلة بأثقال الحنين ما بين المغرب والمشرق مع قدوم نسائم الخريف، محتفية بنصفها الثاني في مكانٍ ما من العالم، ولا يتوقف هذا الخريف وهذا الاحتفاء طوال العام. ولعلّ ما تَركَ في هذه الرابطة من قدسية ظاهرة، ومن آيات الإعجاز في الحبّ والعِشق، ومن أسرار الكون لن تُفَكَّ طلاسمه إلا مع موعدٍ آخر لحُبٍّ مُشابه وهذا مُحال، أنه على مدى عشرين عاما لم تهدأ حمامة السلام من نقل رسائل الوصال بين حبيبين كاتبين عاشقين للمطالعة والكتابة، ولو لفترة وجيزة، بل تواصل حبلُ الوفاء ولم ينقطع، وتدفق ينبوع الاشتياق ولم يجف، وسال المداد في ظُلمة الليل كما في ضياء النهار، وفي فرح الأيام كما في ترحها، وسافر المرسال المشمول بعناية الله على البساط كما تسافر الروح إلى توأمها، دون أن يخبئ القدر في مفكرته لقاء مباشرا بين وجهين، يؤثثه فنجان قهوة أو شارع مديد تتيه فيه أربعة أقدام متناسقة المشي، فلم يحدث أن التقى الحبيبان من قبل، ولم يحدث أن اتحدت أرض القاهرة بأرض أمريكا في قارة واحدة يلتقي فوقها أرقُّ إنسانَيْن، بل ظلّ الود وفيا للغة مشفرة نابضة بالحياة فاقت موجاتها الصوتية قدرة فهم البشرية، ولم تُكتَشف خباياها بعدُ فيما اكتُشفَ إلى الآن من علوم الاتصال والتواصل، فاللقاء كان يتم بالفعل، زُهاء عشرين سنة بين روحين، ولم تجفّ الأوراق من عذْب حروفها ولا السماء من شهادتها على عبق الأثير المُمتدّ حتى حدود الأفق. مي وجبران قصة قلمين مبدعين بارّين بالحب، رسما معا عالمهما الخاص، واختزلاه رغم بُعْد المكان وشساعة الزّمان، ولأنَّ الحياة لا يُمكنها الاستمرار بدونهما ولن تتسع لفَقْدِ أحد رمزَيها ونَجْميْها، إلا أن القدر شاء أن يُذيق مَي مرارة الفراق، وآلام الوحدة، وقسوة الوحشة إلى ما يطيبه قلبها من رسائل جبران، فلم تُطِق الحياة بشطر واحد، وهي تعلمُ أن رسائلها لن تجد من جواب سوى ما يختلجُ في صدرها من وَحْي جبران لها في غربته الثانية، لم تعدْ تتصفح أسطر حبيبها متلهفة لما نظمه لها من عذب الكلام وجوهره، ولم يعد ذاك الجنون المتمرد يتلبّسها بقوة وهي تشد باللاصق ما كتبت لحبيبها الأبدي في ردّها على رسائله البريدية. ورغم أن مي زيادة انزوت إلى ركن حزين بعد وفاة جبران إلى أن وافتها المنية في خريف 1941، فطُويت بذلك صفحة مميّزة من قصة حبيبين جمعهما شغف الحب وملائكيته، إلا أن "رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة" في شعلتها الزرقاء لم تمت، وصارت من الأدب العالمي رفيع المقام، بل ستظل شاهدة على حب إنساني فريد من نوعه فرّقته الغربة ووحدته عاطفة لا حدود لها.