اتخذت الأحزاب السياسية المغربية المشاركة في الحكومة لنفسها مقاما عليا بخصوص الحراك الاجتماعي الذي تشهده منطقة الريف، مفضلة الصمت المطبق على امتداد شهور عديدة، قبل أن تلتئم في شخص قادتها مؤخرا، لغرض واحد ووحيد لم يخرج عن دائرة التكفير السياسي ورمي الحراك ومن يقفون وراءه بالردة الوطنية وخدمة أجندات ذات صبغة انفصالية، والارتماء في أحضان أعداء الوطن، ومعاكسة الروح والانتماء الوطنيين. هذه الركمجة السياسية، بتعبير الدكتور عمر الشرقاوي، للحراك الاجتماعي الريفي من قبل قادة الأحزاب تذكرنا بقول الشاعر العربي: افترقنا حولا فلما التقينا....كان تسليمه علي وداعا فهؤلاء وأحزابهم تركوا الحراك وشأنه، وافترقوا نفسيا وماديا عن كل مقدماته ومؤخراته، وتوابعه وزوابعه، حتى إذا قدر لهم أن يلتقوا به لم يجدوا في جعبتهم شيئا يذكر سوى إطلاق رصاصة الرحمة على أنفسهم فيما يشبه الانتحار السياسي الذي أسقطوا من خلاله عن أحزابهم ورقة التوت ، معلنين إفلاسها العميق، بما يجسد ذهاب النداء الملكي لها في خطاب العرش بتاريخ 30يوليوز2000 أدراج الرياح، وذلك حينما دعاها جلالته إلى وجوب إيلاء العناية القصوى للقضايا اليومية المعيشية للمواطنين وتربيتهم وتأطيرهم، والتخلي عن التنابز بالألقاب، فلم تملك إلا معاكسة الخطاب في شقيه بسبب عجزها عن الاطلاع بهذه المهام الدستورية الموكولة إليها، وسهولة ركوب موجة التنابز بالألقاب، لتنقض هذه المرة على مواطنين يعتبرون من ضحاياها بما زرعته فيهم من إحباط وغياب الثقة وعزوف عن المشاركة السياسية. وحتى نضع الأمور في سياقها وجب التنويه والتأكيد على اعتبار الثوابت الوطنية خطا أحمر، وعلى وجوب احتفاظ الاحتجاجات على طابعها السلمي والاجتماعي مهما كانت الأحوال والظروف، حتى لا نكرر التجارب الأليمة التي تعيشها دول الجوار، وأنا أزعم أن الحراك الريفي مهما وقعت فيه من تسربات وأخطاء لم يخرج بشكل عام عن نطاق السلمية والاجتماعية، وإن تسلل إليه بعض حاطبي الليل من هواة الشذوذ الانفصالي ، فهذا لا يدين الحراك بقدر ما يدين هذه الأحزاب التي توارت عن أنظار المواطنين، وتراجعت إلى الخلف، وتخلت عن دورها في التأطير والتوجيه والتوعية، واكتفت بتقوقعها على نفسها وانكفائها على ذاتها في نواديها السياسية المغلقة ودكاكينها الانتخابية التي تستوطنها العناكب، وتبقى موصدة سنوات دون أن تفتحها للتواصل مع المواطنين إلا لحاجة انتخابية استغلالية محضة، قبل أن تغلقها من جديد، وتقول بعدا للمغفلين ممن أسقطتهم في شباكها بوعود كاذبة، أو برشاوى وشراء ذمم. لقد كان أجدر وأولى بقادة أحزاب "النذير الانفصالي" أن يوجهوا اللوم لأحزابهم على جمودها وتحجرها وتركها الساحة فارغة وتخلفها عن مجاراة الواقع والتأثير فيه، كما كان حريا بهم أن يتركوا أبراجهم العاجية وينزلوا إلى "أرض الحراك" ليقفوا على الحقيقة ويبينوا للناس خيطها الأبيض من الأسود....، لكنهم لم يفعلوا، واكتفوا بإطلاق الأحكام، بما يعبر عن غباء سياسي وقصور عن تمييز ألوان الطيف واستخلاص الخلاصات المؤدية لليقين أو الشك، تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي: "ثمة نوعان من الأغبياء، أولئك الذين يشكون في كل شيء، وأولئك الذين لا يشكون في شيء"، ولا شك أن هؤلاء، مع أقصى درجات حسن الظن، من النوع الأول، حيث وبدافع الشك مسحوا طاولة الحراك برمتها، ورموه في دائرة الاتهام بالانفصال، دون أن يدركوا حماقة الخطوة وتبعاتها عليهم وعلى الوطن، وأنهم بهكذا موقف يثيرون الغافل، ويضخون شحنة إضافية من الحنق والغضب في نفوس ستشعر لا محالة أنها ظلمت، وألا مناص من الاستمرار في الحراك وإثبات العكس، وإظهار مدى تهافت موقف هذه الأحزاب وتسرعها اللا مبرر، وسيأتي لا محالة الوقت الذي ستستجيب فيه الدولة لمطالبهم الاجتماعية، وهنا يكمن مصدر الخطر، إذ سيتوهم الكثير أن "الدعوات الانفصالية" تجلب الرخاء والطمأنينة وتفك من أَسْرِ الحكرة والتهميش والإقصاء. إن سلوكا انفصاليا طائشا قد تظهر بعض تجلياته هنا وهناك عن طريق متسللين يعدون على رؤوس الأصابع أمر لا يدعو إلى القلق، ولا يعد شيئا ذا بال إذا قسناه بالسلوكات الانفصالية عن روح الوطن السادرة فيها أحزابنا السياسية، وهي سلوكات نتلظى بها في كل لحظة وحين، ولا تحتاج إلى كبير تدقيق وتمحيص لإحصائها وعدها، ومن ذلك: إيواء كثير من ناهبي المال العام وتوفير الحماية لهم. شراء الذمم وتوزيع الرشاوى، وبيع الوهم للمواطنين من أجل الحصول على أصواتهم. التخلف عن قضايا المواطنين، والانشغال بتحقيق المكاسب، وبالصراعات السياسوية الضيقة. تزكية مرشحين يباشرون بمجرد تربعهم على عرش المجالس نهب المال العام بطريقة فجة تصل أحيانا حد السرقة الموصوفة. التنكر للوعود الانتخابية وإدارة الظهر لها وقطع الصلة بالمواطنين. العجز عن محاربة الفساد الذي كثيرا ما تورط فيه أعضاؤها وساهموا فيه بنصيب وافر. هذا فيض من غيظ "السلوكات الانفصالية" لأحزاب صارت محط ريبة وشك واحتقار، وزرعت في نفوس كثير من المغاربة مشاعر الكراهية والحقد على السياسة والسياسيين، وأشعرتهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو طابور خامس لا يملك إلا أن يتابع بكثير من الحسرة رفاهية وزرائها وبرلمانييها التي تصل حد التخمة، في الوقت الذي لايجد فيه كسرة خبز حاف، وإن وجدها طولب بحق الحكومة فيها، وإلا سيجلد بسياط غياب الروح الوطنية.