كثيرة هي المناسبات التي يقف فيها المواطن مشدوها أمام خرجات بعض الشخصيات العامة، التي لا تتردد في إطلاق الكلام وتوزيع الاتهام على الآخرين بلا حسيب أو رقيب ولا أدنى مراعاة لمشاعرهم. فنتساءل بحرقة كيف يسمح لبعضها بالاستمرار في تحمل المسؤولية، رغم إخفاقها سابقا في الاضطلاع بمهامها؟ وفي هذا الإطار، يصدق القول على كاتب الدولة المكلف بالنقل، عضو الأمانة العامة في الحزب الحاكم "العدالة والتنمية"، محمد نجيب بوليف. ذلك أنه منذ أن حظي بمنصبه الوزاري في الولاية الفارطة، وهو يقتطع لحظات من وقته الثمين جدا مرة في الأسبوع، ليطرح بعض ما ينتقيه من مواضيع خارج نطاق اشتغاله، في شكل دروس دينية وانتقادات فكرية وفتاوى تخريفية، يراها جديرة بالنشر في صفحته الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي، جاعلا منها قناة تواصل مع مريديه المفترضين، ومنبرا حرا يبث عبره رسائله المشفرة لمن يهمه الأمر. ومن دون شك أنه استلهم فكرة "حديث الثلاثاء" من شيخه الراحل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي كان يلقي دروسه أمام آلاف الإخوان مساء كل يوم ثلاثاء.
ف"بوليف" غاظه عدم تفاعل المغاربة والإعلام الوطني مع أعظم مناسبة دينية خلال شهر رجب، ألا وهي رحلة الإسراء والمعراج، وأبى إلا أن يجتز جزء من حديث يوم الثلاثاء 25 أبريل 2017، ليعيب عليهم انصرافهم عنها والانشغال بأشياء تافهة مثل: تسلق امرأة عجوز لعمود كهربائي، اشتراء عارضة أزياء خاتم ثمين وتطليق ممثلة عالمية زوجها، متغافلين الحديث عن سيرة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام وسماحة الدين الإسلامي وفريضة الصلاة ويوم الحساب...
ترى ألم يجد الوزير/المفتي من سبيل لتذكير اللاهين عن معجزة الإسراء والمعراج، عدا الهجوم على المتعاطفين مع "مي عيشة" ومن يسخرون أقلامهم وألسنتهم للخوض في توافه الأمور؟ أنسي أنه أدى اليمين الدستورية لتكريس جهوده في خدمة وطنه بصدق وأمانة، وأن كل ما يتعلق بالشؤون الدينية له مؤسساته الخاصة؟ فيوما عن يوم يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن قياديي ووزراء حزب العدالة والتنمية، ليس لهم من برنامج سياسي واضح عدا تهريب الدين واستغلال خطابه في التلاعب بعقول البسطاء والعوام ودغدغة عواطفهم، وإلا فلماذا يتغاضون عن أهم القضايا والهموم التي تشغل بال الرأي العام الوطني، دون الانكباب على معالجتها من مواقع مسؤولياتهم وبما يتوفر لهم من إمكانات؟
ف"مي عيشة" سيدة عجوز ضاقت بها السبل وأغلقت في وجهها الأبواب، ولم تجد من حيلة لإسماع صوتها والجهر بأوجاعها، سوى اللجوء إلى عمود كهربائي على بعد خطوات من مقر البرلمان، صعدته بشجاعة حد حوالي ثلاثين مترا، وظلت متمسكة به أزيد من ساعتين متدثرة بالعلم الوطني، حاملة قنينة بنزين، مهددة بالانتحار احتجاجا على ما طالها من ظلم، جراء تعرضها للنصب والاحتيال في الاستيلاء على "أرضها" وبيعها دون أن يستطيع القضاء إنصافها. وأنه لولا الألطاف الربانية وتدخل الوقاية المدنية بوسائلها البسيطة ومساعدة المواطنين، ما كانت المسكينة لتفلت من موت محقق وللحقت ب"مي فتيحة" أو في أحسن الأحوال أصيبت بعاهة مستديمة في عمرها المتقدم.
والغريب أن "مفتي الثلاثاء"، عاد يوم الخميس 27 أبريل 2017 ليوجه مليار اعتذارا ل"مي عيشة" عبر المحتجين ممن ربطوا تدوينته بها، متهما إياهم بتحريف الموضوع عن وجهته، وأنه في حديثه عن
الإسراء والمعراج لم يكن يقصد الإساءة لأحد بعينه. ولعمري هذا حال "البيجيديين"، حيث يغلب على تصريحاتهم طابع التناقض والازدواجية، مما ينم عما يعانونه من التباس في الرؤية وارتباك في التفكير، ناسين أن هناك أولويات وانتظارات تقتضي التفاعل الجدي معها، وأن التغيير الحقيقي ليس بتغيير الأقنعة وإنتاج خطاب شعبوي سخيف. إذ يحاولون من خلال الازدواجية إقناع أتباعهم ومناصريهم بأن ما يذهب إليه غيرهم من قراءات لخطاباتهم، مجرد استنباطات وتأويلات مضللة وغير سليمة.
ألا يعلم أن أمثال "مي عيشة" هن من يستخدمهن حزبه وقودا في حملاته الانتخابية وإبان التصويت، وأن تدوينته الأخيرة كشفت بوضوح عن العقلية الذكورية البئيسة، التي تتحكم فيه وإخوانه للنيل من المرأة أينما وجدت؟ وهل من الحكمة الربط بين حدث عظيم في حجم قصة الإسراء والمعراج، وقصص ثلاث نساء ضمنهن عجوز يعتصر الظلم قلبها؟
أما كان حريا به عوض تبخيس قضيتها، الانبراء للدفاع عن حقها المغتصب، عبر حديثه الأسبوعي وذلك أضعف الإيمان، لاسيما أن الله جل جلاله نفى الظلم عن نفسه، وقال في سورة النساء الآية 40: "إن الله لا يظلم مقدار مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما"؟ فوحده القادر على مضاعفة الحسنات دون السيئات. وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فيما يرويه عن الخالق الرحمان أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" (حديث قدسي).
إن ألوان الظلم في مجتمعنا لاحدود لها، وكلما توغل المواطن في الحياة، إلا وتعقدت الأمور وظهرت صنوف من الحكرة والقهر، فلم لا يجشم "خطيب الثلاثاء" نفسه عناء الحديث عن مواضيع: مشاكل النقل، التملص الضريبي، أكل أموال اليتامى، الاستيلاء على أراضي الدولة بأثمنة رمزية، الاقتطاع غير المشروع من أجور المضربين؟ فكفى من استغلال المقدس الديني في خدمة حساباتكم السياسية الضيقة.