لن نتطرق في هذا الموضوع إلى النصف الممتلئ من الكأس، فوسائل الإعلام الرسمية تكفلت بالأمر حين أمطرتنا وابلا من العبارات مثل تصدير التجربة المغربية في الحفاظ على البيئة، والدور الريادي للمغرب في مكافحة التلوث، والسياسة الطاقية الفريدة من نوعها في العالم الثالث، مستعملة في ذلك شعارات رنانة كالعدالة المناخية والاقتصاد الأخضر والتنمية النظيفة. ونكتفي فقط بالتساؤل إن كان النصف الممتلئ ذاتُه مجردَ خليط فاق فيه تركيزُ الملوِّنات والمُنَكِّهات كلَّ المعدلات المسموح بها. وبالنظر إلى واقع بيئتنا ومستوى صناعتنا يحق لنا أن نتساءل ما علاقة المغرب بمؤتمر الأطراف ) Partiesthe Conference Of ( ؟ نعم، كيف لطرف سفلي ملتصق بالحضيض أن يقف في قمة المناخ أمام أطراف عليا تمتد أذرعها الصناعية والاقتصادية إلى أقاصي العالم؟ فالمغرب بالنسبة للدول المتقدمة ليس إلا يدا عاملة رخيصة ومواد أولية وفيرة ومطرحا شاسعا للنفايات وسوقا قريبة من إفريقيا والعالم العربي. أكثر من ذلك، على المغرب أن يستورد نفاياتها ليخنق بها النفوس وينفث رمادها على الرؤوس دون أن يكِلّ من تهييئ الأرضية المناسبة لمزيد من الاستثمارات الصناعية التي تذهب عائداتها إلى البنوك الغربية وتسمم مخلفاتُها البيئة المغربية. وبغير هذا، لن يحظى المغرب بِرِضى الملوِّثين الكبار ويحصل على مساعدات مالية وينظم مؤتمرات عالمية تُلَمّع صورته وتُضفي الشرعية على سياسات أنهكت البشر ودمرت الشجر وحولت الأجسام إلى متلاشيات. ما قد يخشاه بعضُ سَاسَتِنا في تغير المناخ هو ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض؛ فذلك سَيُؤَدي إلى انصهار جليد القطبين وارتفاع مستوى سطح البحر، وبالتالي تغمر مياهُ المحيطات تدريجيا بعض دول العالم؛ وبما أن جُزُر بَنَما من المناطق المهددة بالاختفاء من سطح الكرة الأرضية فإن هؤلاء الساسة يستعدون للبحث عن جَنّة ضريبية شاهقة قبل فوات الأوان! وإذا كان التلوث في الدول الصناعية له ما يبرره باعتباره ضريبة مباشرة ترتفع بازدهار الصناعة وتحقيق الأرباح فهو في المغرب-البلد الفلاحي بامتياز-لا يرتبط مباشرة بالنشاط الصناعي، وإنما بأمور أخرى نكتشفها بعَرْض الحقائق التالية: * استقبال المغرب لأطنان من النفايات الأوروبية على مدى السنين الأخيرة. * السماح بإقامة أبراج الاتصالات الهاتفية فوق أسطح المنازل دون حماية السكان من الإشعاع الكهرومغناطيسي. * رمي النفايات دون فرْز في مطارح مكشوفة محاذية للمدن، تؤْذي السكان بروائحها الكريهة وتسبب لهم أمراضا كثيرة. * توسيع أساطيل السيارات الإدارية التي تجوب المدن والقرى وإن كانت تُلوث البيئة وتُبدد الطاقة في خدمات شخصية. * إعطاء الترخيص لورشات صباغة السيارات والميكانيك داخل كل حي سكني في إطار لامركزية ولا تمركز التلوث. * استمرار تهديد التنوع البيولوجي في المجال البحري من طرف سفن الصيد الأجنبية. * تفويت عيون مياه الشرب المعدنية لشركات خاصة على حساب السكان الأصليين. * عرض الأسواق الممتازة للأسماك والقشريات والرخويات المصطادة في المنطقة 61 المعروفة بتلوثها الكيميائي والإشعاعي. * مواصلة التنقيب عن النفط والغاز في المغرب من طرف الشركات العالمية ينذر باستمرار الاعتماد على الطاقة الأحفورية لعقود آتية. * عدم تعويض جُلِّ ضحايا الزيوتِ الملوَّثَةِ الأحياء منهم والأموات رغم أن الكارثة تعُود إلى سنة 1959 حين تم خلط زيت المائدة بِزُيوت الطائرات العسكرية الأمريكية. * تَرَامي الَّذين عُهِد إليهم بحماية البيئة على المِلك البحري حيث بَنَوا فيلات مع أدراج تَصِلهم بمياه البحر. * استنزاف الثروة الغابوية التي تعد مصدر الورق، فَكمْ من شجرة قُطعت لتوفير أوراق الدعاية الانتخابية؟ وكم من غابة دُمرت مقابل العدد الكبير من النسخ الذي تطلبه الإدارات المغربية من المواطنين للحصول على وثيقة؟ في زمن الرقمنة ما زال الأساتذة يدفعون ست نسخ من الورقة الشخصية لإداراتهم! * امتداد أحزمة إسمنتية حول المجالات الطبيعية عِوَض أحزمة خضراء حول المدن. * تَفَحُّم مدينة جرادة بمُخَلَّفات مَنجمها نتيجة التدبير العشوائي للجهات الوصية ثم إنشاء محطة حرارية جديدة بآسفي، تشتغل بالفحم الحجري (أكبر مسبب للاحتباس الحراري) وفق الرؤية الاستراتيجية الثاقبة للأوزون! * احتقار عمال النظافة، فهم الأكثر تعرضا للتلوث والأقل استفادة من العناية الصحية والدعم المادي. * استرخاص حياة المواطن المغربي: إذا تفاقمَتْ أمراضه نتيجة التلوث وقرر اللجوء إلى القضاء الاستعجالي لرفع الضرر وإنقاذ حياته قُوبِل طلبُه بالرفض بِحُجة أن الموت البطيء لا يستوجب الاستعجال. وهكذا، يتبين أن إمعان المسؤولين في تدمير البيئة بكل عناصرها مَدْعاة للشك فيما يدّعونه من حرص على حمايتها، وأن السعي المحموم نحو الربح هو غاية العقول الملوَّثة. ولن نصدّق أبدا أن مشاريعهم أُنشِئت لتكون صديقة للبيئة ما داموا غير صادقين مع الشعب. وفي هذا السياق يمكن إدراج المشروع الضخم "نور" الذي رأى النور حديثا، حيث يبدو أن المستفيد الأول من محطة توليد الطاقة الشمسية هي الشركات الإسبانية والألمانية التي صنعت المُعدات وشركة "أكوا باور" السعودية التي تستغل المحطة تجاريا؛ أما الوكالة المغربية "مازن" فينحصر دورها في اقتناء الكهرباء المنتَجة وإعادة بيعها للمكتب الوطني للكهرباء بثمن أقل. ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن الجدوى الاقتصادية لمشروع "نور" تتجلى في تأمين مصادر طاقية متجددة غير ناضبة. أما البلاستيك الذي يمنعون استعمالَه أكياسا ويستوردونه أزبالا، فحكايته تُذَكرنا بِقول أحد المسؤولين إبّان اهتمام الراحل إدريس البصري بملاعب الغولف إن كثرة الملاعب من هذا الصنف تبين للعالم أن المغرب دولة متقدمة. في مغرب الحَمَلات مبادراتٌ كثيرةٌ أُطلِقت لإسكات أفواه أو نيل رضى أو تلميع صورة أو ربح مال؛ لكن لا يصح إلا الصحيح. وتبقى السياسة التربوية الصحيحة الطريق الأَقْوَم إلى التغيير، وهذه تُترَجم في الأخير إلى فعل يومي وعمل دؤوب يرسخان القيم والسلوكات الإيجابية، ولا تقتصر على حملات في أيام معدودات، تصاحبها ملصقات على الجدران وشعارات على القنوات التلفزية وخُطب جمعةٍ على المقاس؛ فبعد حملة غسل الأيدي بالصابون سنة 2009 عند ظهور انفلُوَنزا الخنازير وحملة شواطئ نظيفة في بداية كل صيف وحملة "التربية على النظافة" التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية في أواخر 2015 ارتأى الساهرون على سلامة بيئتنا وجمع أوساخ الدنيا أن تحقيق الوعي البيئي يقتضي حملة جديدة غلفوها بأكياس بلاستيكية....وفي انتظار حملة أخرى، يبقى الإجرامُ البيئى سيّدَ الموقف وَلا مِن حسيب وَلا رقيب.