إنه الخريف بلغة " سعيدة فكري"، فالأوراق أخذت تتساقط قبل أوانها هنا وهناك في كل بقعة من بقاع هذا الوطن العليل، بعد أن جفت الجذوع والأغصان من النسغ، واشتدت عليها قسوة المناخ المخزني، أوراق تذهب في مهب الرياح، وتترك حفيفا شجيا بين الضلوع، ودموعا متجمدة في المحاجر، ونارا متقدة بين الجوانح سرعان ما يخبو لهيبها مع تعاقب الليل والنهار، أوراق جادت بنفسها استجابة لنداء الكرامة والكبرياء واحتجاجا على الحصار الرهيب الذي يخنق الأنفاس، من جوع وحرمان وتهميش واستعباد.. ففي البداية سقطت الورقة الأولى التي تحمل اسم " مي فتيحة" البائعة المتجولة بعدما أضرمت النار في جسدها احتجاجا على حجز سلعتها، تلتها فاجعة أخرى بسقوط ورقة التلميذ "أحمد أعراب" الذي لم يجد ما يلوذ به إلا حبل المشنقة خلصه من واقعه البئيس، ثم بعد ذلك جاء دور الشاب الذي ألقى بنفسه من بناية شاهقة بمدينة مكناس، وهلم جرا من النزيف الآدمي الذي بدأ يعرفه الوطن في الآونة الأخير، إذ لا نكاد نضمد جرحا حتى تهتز قلوبنا من جديد على وقع فاجعة أخرى تذكي الجراح، وتوقظ المواجع وتزيد من تعميق الهوة بين المواطن والوطن ...
إذن فما وقع لبائع السمك بالحسيمة " حسين فكري " هو امتداد طبيعي واستمرار للسياسة القمعية الوحشية التي تنهج في حق المواطنين من الدرجة الثانية من طرف الأجهزة المخزنية..
إن عبارة " طحن مو" رسالة فصيحة بليغة تحدد بدقة مكانة و قيمة الإنسان المغربي داخل هذا الوطن، فهو لا يعدو أن يكون مجرد كائن حي ينحدر من سلالة
العبيد ويعيش تحت رحمة جلاد يحن إلى الزمن التليد زمن "هبل واللات والعزة" زمن الاسترقاق والنخاسة..
إن عبارة "طحن مو" تنم عن الحقد الدفين الذي يكنه المخزن للشعب، والسلطة المطلقة التي تمارس في حق أبناء الوطن وقمة التحكم في رقابهم، إنها السادية التي تجعل من المخزني يستعذب ويتلذذ بطقطقة عظام حسين فكري وهي تهصر مع الأزبال في الشاحنة..
إن عبارة " طحن مو" لن تنسى وستظل موشومة في الذاكرة الشعبية المغربية، وسيدونها التاريخ بدماء حسين فكري الممزوجة برائحة الزبالة في سجل شهداء الشعب المغربي..
إن عبارة " طحن مو" تعصف بالشعارات البراقة التي رفعتها الدولة من قبيل طي صفحة الماضي والعهد الجديد والانتقال الديمقراطي، وتزيح النقاب عن هشاشتها وعن الفشل الذريع للنظام في إيجاد مقاربة مرنة في كيفية التعاطي مع المواطن بعيدا عن الإهانة و المقاربة القمعية الموروثة من العصور البائدة..
يجب أن تدرك أيها المخزني أن مغربي اليوم ليس هو مغربي الأمس، فإذا كانت سياسة العصا والحديد والنار البارحة سياسة ناجعة في ترويض من أراد أن يمشي منتصب القامة مرفوع الهامة، فإنها اليوم لم تعد تجدي نفعا مع مواطن مقهور تنازل عن كل شيء وتشبث بالكرامة، واعتبرها خط أحمر لا ينبغي تجاوزه، وأصبح مستعدا لتقديم حياته قربانا لكرامته..
وبالتالي ينبغي تبني مقاربة جديدة ترقى لمستوى اللحظة، تحترم فيها كرامة المواطن وحقه في الحياة وحقه في العيش الكريم بعيدا عن سياسة الحجاج ومن هم على شاكلته، والتي من شأنها أن توقظ البركان الخامد والذي يصعب التكهن بحممه...