تتسارع بعض الأحداث حولنا و تتعدد التأويلات لتضعنا أمام أسئلة بدون أجوبة مقنعة. هذا الأمر يحتم أخذ مسافة كافية مع هذه الأحداث لتحليلها بشيء من الموضوعية و اعتمادا على آليات تحليلية تحدد و تصنف الأسباب و تفسر بعض المواقف من وجهة نظر نقدية. يعتبر الاحتجاج عموما ممارسة ديمقراطية خارجة عن الإطار المؤسساتي للديمقراطية التمثيلية، كما يعبر الاحتجاج أحيانا عن غياب الثقة لدى المواطن في هذه المؤسسات، خصوصا عندما لا تتبنى هذه المؤسسات مطالب معينة لفئة من المواطنين، قل أو كثر عددهم. و قد بينت بعض الدراسات حول المجتمعات الديمقراطية بأن المواطنين الذين لا يثقون في المؤسسات هم الأكثر ميلا للجوء إلى الاحتجاج لمطالبة الحكومة بتغيير سياسيتها تجاه موضوع معين. ما يجري من نقاش و احتجاج حول التقاعد و حول فصل التوظيف عن التكوين يمكن أن يؤشر على وجود شرخ أو تزايده بطريقة دراماتيكية بين السياسي و المواطن العادي، و على عدم وجود تواصل بينهما، أو على الأقل عدم وجود تجاوب له أثر ملموس على القرار السياسي. في مثل هذه الحالات، ترتفع المشاركة السياسية في شكلها الغير المؤسساتي، و من بينها الاحتجاج. إذا كان لجوء المواطن إلى الاحتجاج كممارسة غير مؤسساتية مفهوما من حيث دوافعه، و التي قد تتعدى مسألة عدم الثقة إلى مسائل أخرى لها علاقة بعدم الرضا و السخط الشعبي على سياسات الحكومة، فإن عدم وجود تجاوب ملموس من طرف النخبة السياسية تجاه مطالب شرائح اجتماعية يحتاج لبعض التحليل من وجهة نظر نقدية. يختلف السياسيون من حيث قبولهم للاحتجاج السياسي للمواطن و تجاوبهم مع مطالبه. يمكن تفسير هذا الاختلاف من خلال أربعة عوامل أساسية: - المصلحة: حيث يميل السياسي إلى قبول الاحتجاج و التجاوب معه إذا كان يخدم مصلحته السياسية الآنية أو بعيدة المدى، سواء الشخصية، أو الانتخابية أو الإستراتيجية. - القيم و المبادئ أو الايديولوجيا: بحيث تنحاز التيارات السياسية للاحتجاج الذي يدافع عن القيم التي تؤمن بها. - التجارب و التقليد في مجال الاحتجاج حيث أن التيارات التي مارست الاحتجاج في فترات من تاريخها تكون أكثر تقبلا للاحتجاج. - الموقع السياسي: من حيث أن التيارات تقبل أو ترفض الاحتجاج انطلاقا من موقعها في الحكم أو المعارضة. عرف المغرب خلال الفترة الأخيرة نقاشات تلتها احتجاجات، لكن تجاوب النخبة السياسية الحاكمة كان سلبيا لدرجة غير مسبوقة منذ 2011 حيث أن الحكومة بقيت مصرة على قراراتها و استمرت في تنفيذها رغم وجود مطالب شعبية بإلغائها أو تعديلها. إذا كان ملف الرفع من سن التقاعد عرف عدة تطورات كان أخرها المطالبة الشعبية غير الفيسبوك لإلغاء تقاعد البرلمانيين و الوزراء، فإن ملف فصل التكوين عن التوظيف عرف تصاعدا احتجاجيا أدى إلى التدخل العنيف لقوات الأمن في حق الأساتذة المتدربين. بالنسبة للملف الأول في شقه الأخير كانت المصلحة الذاتية للنخبة السياسية أكثر تحكما في موقف النخبة السياسية سواء في المعارضة أو الحكم من الايديولوجيا أو القيم. فالبرلماني أو الوزير لا يريد التخلي عن تعويضات التقاعد لأن ذلك يمس مصلحته الشخصية. و رغم أن التيارات اليسارية و حتى الإسلامية تؤمن بأنه يجب القطع مع الريع فان أغلبهم التزم الصمت حيال هذا الموضوع، بل هناك من دافع عن ذلك بحجة كون ذلك التعويض لا يؤثر على ميزانية الدولة و لن يحل مشكل التقاعد [جوج فرانك]. فتجاوب النخبة السياسية تجاه الاحتجاج حول ملف التقاعد في عمومه كان سلبيا لأن معظم السياسيين إما أنهم فضلوا الحلول السهلة على حساب الموظف و الأجير لأنهم يتولون زمام الأمور، و إما لأنهم، رغم وجودهم في المعارضة، لا يستطيعون اقتراح حلول تمس بالنخبة السياسية و الاقتصادية. إذا كان الاحتجاج في هذا الملف قد تم تأطيره على أرض الواقع من خلال النقابات، فأن ذلك لم يؤثر إطلاقا على القرار السياسي للحكومة. وهذا إن كان يعني شيئا من الناحية السياسية، فإنه قد يعني أن الاحتجاج من خلال إطار مؤسساتي لم يعد ذا جدوى، و لم تعد النقابات تملك تلك القوة التأثيرية التي كانت لها في ثمانينيات القرن الماضي مثلا. كل هذا يعطي الانطباع بأن مساءلة الحكومة عبر المؤسسات لا تؤتي أكلا، فلا البرلمان و لا الأحزاب ولا النقابات قادرة على تبني قضايا أساسية بالنسبة للمواطن و الدفاع عنها، و الحصول على نتائج ملموسة. بقي قرار الحكومة بالرفع من سن التقاعد صامدا في وجه الاحتجاج و احتفظ لحد الآن البرلمانيون و الوزراء بمعاشاتهم و سيتم رفع سن التقاعد، و ليستمر الاحتجاج، فلا تجاوب سيحصل لا عاجلا و لا آجلا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ألا تخاف الأحزاب المؤلفة للحكومة من انتقام الناخبين؟ أين هي المصلحة الانتخابية في هذا العناد السياسي؟ و ما دور القيم في هذا الموضوع؟ يدافعون جميعا عن القرار انطلاقا من موقعهم السياسي، حيث يتحتم عليهم إيجاد حلول لملف التقاعد، لكن يبدو أن وفاءهم للموقع أكثر من وفاءهم لعموم الشعب، ربما لأنهم يؤمنون بأن نتائج الانتخابات تحددها معايير و قوى أخرى، و أن الصوت الانتخابي يسهل توجيهه و التحكم فيه. لكن قيم المواطنة و المساواة تحتم على النخبة الحاكمة حل هذا المشكل عبر التشاركية و العدل، أي أن يشارك الجميع في القرار و أن يساهم الجميع في تكاليف هذا القرار، لا أن يتم حله على حساب طرف واحد و استثناء الأطراف الأخرى. يبدو إذن أن النخبة الحاكمة ترى مصلحتها في إرضاء القوى التي تتحكم في الموقع السياسي الذي تحتله مؤقتا، سواء الدولة العميقة أو القوى الاقتصادية و السياسية الخفية في الداخل و الخارج، وأن تجاوب السياسي مع الاحتجاج سيبقى سلبيا مادام الحفاظ على الموقع السياسي و المصلحة الذاتية هما المتحكمين في القرار السياسي. بالنسبة لملف فصل التوظيف عن التكوين، تبدو الأمور أكثر وضوحا من حيث أن تعنت رئيس الحكومة في الإبقاء على المرسومين أدى إلى احتجاجات متتالية و تصاعدية كانت كلها مرفوضة من طرف الحكومة و لم تؤيدها سوى تيارات يسارية قليلة. كان هذا الرفض السياسي للاحتجاج مؤشرا على الموقف الحقيقي للنخبة السياسية من الاحتجاج عموما. فمادام هؤلاء الأساتذة المتدربون اختاروا الاحتجاج خارج المؤسسات التمثيلية، و التي يبدو أنهم لا يثقون في فعاليتها السياسية، فإن الاحتجاج أصبح ذا دلالة سياسية إضافية، بحيث أن الحكومة كان بإمكانها حل الملف بكل سهولة،إما بإضافة مناصب مالية أو إرجاء تكوين و توظيف العدد الذي لا يمكنها توفير مناصب مالية لهم للسنة المقبلة. إذن فالاحتجاج خارج المؤسسات التمثيلية يخلق نوعا من التجاوب السلبي و يؤدي إلى تعنت النخبة الحاكمة التي ترى في الحل انتصارا لقوى قد تكون وراء تحريك الملف و دعم مطالب الأساتذة. و قد عبر وزير الداخلية عن ذلك عندما قال بأن هناك أطرافا أخرى تريد الر كوب على هذا الملف و استغلاله سياسيا. و قد يكون التدخل العنيف ضد الأساتذة ببعض المدن تجليا آخر لهذا الموقف السلبي من الاحتجاج الغير المؤسساتي و الذي عرف انتعاشا خلال الربيع العربي و بقى مرتبطا به و بدلالاته، و ترغب الدولة في القطع معه بكل الوسائل. و يبقى موقف النخبة السياسية الحاكمة المنتخبة تجاه الاحتجاج الغير المؤسساتي مرتبطا برغبتها في الحفاظ على موقعها السياسي و الذي هو في حقيقة الأمر مصلحة ذاتية، و مرتبط كذلك بموقف قوى أخرى تتحكم أكثر في مجريات الأمور و تأويلها. خلاصة القول، إن الحكومة المنتخبة لا تتخذ موقفا تجاه الاحتجاج بالرجوع إلى الإيديولوجية و القيم و الإستراتيجية الحزبية البعيدة المدى، بل اعتبارا فقط للموقع السياسي والمصلحة الشخصية التي تحاول بكل الوسائل الحفاظ عليها.