في مستهل السنة الدراسية، وتزامنا مع اليوم العالمي للمدرس، أبى رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران أن تمر الفرصتان دون تهنئة رجال ونساء التعليم تهنئة خاصة استعار مفرداتها من معجم التبخيس والسحل وتدمير الآخر الذي ورثه إياه المشرف الأول على قطاع التربية الوطنية رشيد بلمختار الذي قضى السنة الفارطة متنقلا بين ألفاظ "الخريف" و "التخلف التربوي"...دون أن يترك فرصة صغيرة أو كبيرة تمر، ولا يصوب من خلالها لسانه النفاث تجاه هذه الفئة التي خندقها في دائرة السلبية المطلقة. وكما يقول الشاعر: افترقنا حولا فلما التقينا........ كان تسليمه علي وداعا ، فقد صام السيد بن كيران سنة كاملة عن الكلام، ولم يصدر عنه أي تعليق أو تبرأ من الوزير المحسوب على حكومته مجازا، وحين نطق جاء كلامه وداعا للأمل في غد تعليمي غير ذي عوج، ونعيا للإصلاح التعليمي الذي باء بالفشل الذريع ولم يكتب لأي من محاولات "إصلاحه" أن تكلل بالنجاح، وهو نعي اقترن بالإدانة الشديدة اللهجة للمشتغلين عمليا بالمنظومة التعليمية من المدرس إلى المدير إلى المفتش، محملا إياهم مسؤولية جريمة إفشال وهدر الجهود الإصلاحية لحكومته المبجلة، يقول السيد بن كيران: "كل المحاولات لحد الآن فشلت في إصلاح التعليم، محد المعلم والأستاذ والمدير والمفتش والمعيد ومنعرف شكون، محدهم ما داروش بالهم لهاد الهم راه ما غاديش يتصلح التعليم". الخطير في هذا التصريح أنه جاء بصيغة العموم، فالإدانة تشمل كل مدرس وكل مدير وكل مفتش، ولا تستثني أحدا، لأن الرجل عرف هذه الأسماء ولم يأت بها نكرة، ولو أنه فعل، لوجدنا له بعض العذر، ولقلنا إنه يقصد فئة غير منضبطة من رجال ونساء التعليم، لكن ما دام أنه استعمل "ال" التعريف التي تفيد بيان الجنس، فقد قطع الشك باليقين، ولم يترك لنا فرصة للشك، فحينما نقول مثلا "رجال" ينصرف تفكيرنا إلى أن المعني بالأمر بعض الرجال دون البعض الآخر، لكن حينما نقول "الرجال" فالأمر ينطبق على كل الرجال، فقوله تعالى: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" يفيد أن المستهدف بالكلام بعض الرجال دون البعض الآخر"، وقوله سبحانه: "الرجال قوامون على النساء" يفيد عن طريق "ال" التعريف أن الحكم ينطبق على كل الرجال، هذه فقط إشارة لمن سيتهمنا بتحريف كلمة الرجل ولي عنقها، مع أنها واضحة القصد، ولا تحتاج إلى كل هذا الشرح، وزادها وضوحا توظيفه ما يسميه البلاغيون "تجاهل العارف" لغاية التحقير من خلال عبارة "منعرف شكون".، وهي عبارة لا يمكن أن يستعملها إذا كان المستهدف بخطابه فئة أخرى من ذوي الشأن العلي، غير فئة رجال ونساء التعليم المغلوبة على أمرها. و"الهم" الذي يقصده الرجل، ويتهم من يتحدث عنهم بعدم حمله هو ما نسميه بالضمير المهني والإحساس بالمسؤولية، وهي البؤرة الدلالية المغيبة في ممارساتهم، المستبعدة خارج أسوار المؤسسات التعليمية، المفقودة تماما داخل الفصول الدراسية والإدارات التعليمية حسب حكم السيد بنكيران، وهو ما يجعل مدلول كلامه ينصرف إلى تحميلهم مسؤولية سقوط تعليمنا في مضمار التصنيف العالمي، وتقهقره إلى مراتبه الأخيرة، وفق معادلة أراد لها أن تكون على الشكل الآتي: حمل هم التعليم هو ضمانة إصلاحه الأولى والأخيرة رجال التعليم بكل أصنافهم لا يحملون أي هم تعليمي إذن لن يكتب للإصلاح التعليمي النجاح. وفق هذا الحكم المعمم أرانا السيد بن كيران رجال ونساء التعليم في صورة عصابة إجرامية منظمة، عديمة الإحساس بالمسؤولية وبدون ضمير مهني، لا تلقي بالا إلى الجهود المضنية التي ما فتئ سيادته يبذلها لإخراج التعليم من مستنقع القائمة السوداء وإبعاده عن دائرة الغرفة المركزة، ولا هم لها إلا تبادل الأدوار، كل فرد من موقع مسؤوليته، لإحباط محاولات ضخ دماء الحياة في شرايينه، وهذا اتهام خطير جدا يضرب وطنية هذه الفئة العريضة في الصميم، ويصورها في صورة المستهتر الذي لا يلقي بالا إلى قضية وطنية جعلتها أعلى سلطة في البلاد في المرتبة الثانية من حيث الأولوية بعد قضية الوحدة الترابية، كما أنه اتهام اختزالي غير مسؤول ألقى فيه الرجل قميص عثمان على العنصر البشري الممارس للمهنة والمشتغل بها على أرض الواقع، في الوقت الذي نال المشرفون المركزيون على القطاع بطريقة ضمنية شرف النأي بالنفس عن المشاركة في الجريمة، بل إن هؤلاء حسب بن كيران يقدمون التضحيات ولا يجدون التجاوب من أولئك الذين يكتفون بالأخذ، ويطالبون بالمزيد، دون عطاء يذكر، مشهرين سلاح الإضراب كلما طلب منهم الالتزام بعملهم وبواجبهم، وكأن الإضراب تحول إلى سلوك مشاغب، وهو الذي كان اللغة الرسمية لنقابة سيادته حينما كان حزبه في المعارضة. ويبدو أمر هذه الخرجة غريبا جدا، لا سيما إذا وضعناها في سياقها الزمني الذي يرتبط بإطلاق المجلس الأعلى للتعليم "الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية" المحدد حيزها في الفترة الممتدة ما بين 2015 و 2030، وهي رؤية جعلت الرفع من جودة الفاعلين التربويين على رأس أولوياتها، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هاهنا هو كيف يستقيم تحميل الفاعل التربوي مسؤولية جسيمة والتعويل عليه لإنجاح هذه الرؤية، في الوقت الذي يبخسها حقها ويحبطها صاحب ثاني سلطة في البلاد؟، أليس هذا جهرا بالسوء في حق هذه الفئة لغاية في النفس تروم تقويض جهود المجلس باستباق الإعلان الرسمي عن الوفاة المعنوية لمن سيوكل إليهم إنجاح المخطط الجديد بعيد الإعلان عن ولادته، وكأن الرجل يريد أن يقول لمن يهمهم الأمر بأن جهودهم ذاهبة لا محالة أدراج الرياح، لأن لا حياة لمن ينادونهم بالإصلاح؟، وهنا أتساءل: ألا يمكننا أن نصنف السيد بن كيران في دائرة المتشائمين الذين يحبطون جهود الإصلاح التعليمي، ويعاكسون الرغبة الرسمية في تعليم أحسن، ويستبقون كل محاولة إصلاحية لزرع بذور الإحباط والتيئيس في النفوس؟، ألم يكن جديرا بالسيد بن كيران، احتراما لمنصبه ولمسؤوليته الجسيمة، أن يعمد إلى الرفع من معنويات رجال ونساء التعليم بإجراءات عملية ومبادرات معنوية بغاية تهيئتهم للقيام بالدور الاستثنائي المناط بهم، على اعتبار أن الإنسان بصفة عامة يحتاج إلى التقدير من أجل العطاء، كما يقول "جون ديوي": "أعمق دافع للإنسان إلى العمل هو الرغبة في أن يكون شيئا مذكورا"، وكما عبر عن ذلك "تشارلي شواب"، وهو أحد المديرين الناجحين، حينما سئل عن سر نجاح مشاريعه، فرد قائلا: "إنني أعتبر مقدرتي على بث الحماسة في نفوس الناس هي أعظم ما أمتلك، وسبيلي إلى ذلك هين وميسور، فإني أجزل لهم المديح والثناء وأسرف في التقدير والتشجيع". أين السيد بن كيران من كل هذا؟، أما أنه لا يعي دوره هذا فهو مستبعد جدا، لكن غير المستبعد هو أن الرجل يتغيا الحط من معنويات مستهدفيه (بفتح الدال) لأسباب نفسية محضة تبدو بوادرها في حديثه المتقطع وانفعاله، وانفلات الكلمات من لسانه، أو احتباسها عنه، وإيراد كلمة "أستاذة" في سياق الحديث عن "الطبيبة"، وهي زلة لسان تكشف عمق النظرة السوداوية تجاه فئة رجال ونساء التعليم، وحضورها في قائمة التفكير السلبي للرجل، ودون الدخول في تفاصيل أسباب نزول هذا الحقد، نستغرب كيف عزل هذه الفئة ومنحها لواء غياب الضمير، في الوقت الذي نعلم فيه أن مشكل التعليم بالمغرب مركب ومعقد جدا، تتداخل فيه مجموعة من العوامل البشرية وغير البشرية، وكل اختزال له في هذا الجانب أو ذاك يبدو سلوكا دوغمائيا تبسيطيا، وحتى في إطار ماهو بشري، فقد اقتصر الرجل على سحل الفئة الدنيا ، في حين أن الفئات العليا على المستوى المركزي والجهوي لم يخصها بأي ذكر، لأن سياق التعريض والتقريع يستوجب السمو بها وعدم ذكرها احتراما لها وتقديرا، وهذا ديدنه في الارتماء على الحائط القصير الذي لا حول له ولا قوة للتغطية على الملفات التي أخفقت فيها حكومته وعانقت الفشل الذريع، وهروب إلى الأمام، وخلط للأوراق على المواطن البسيط حتى لا يتبين الخطوط السوداء التي تقضي على كل وميض نجاح لا ح في الأفق هنا أو هناك. لم تمتلك، سيدي، أن تضبط سمفونية وزير التربية الوطنية الناشزة عن إيقاع حكومتك، وهو الذي ما فتئ يردد بمناسبة وبغيرها أنه ليس من حكومتك، وأن حكومتك ليست منه، ولم تمتلك الشجاعة لتقول للمواطنين بأن "وزيرك" هذا بغى عليك، وبأن قطاع التعليم صار خارج سيطرتك، وأنه لا ناقة لك ولا جمل في كل ما يحصل ويقع فيه، وقد كان أولى بك أن تستمر في صمتك، كما صمت عن الكلام في مجموعة من المواقف التي كان آخرها فضيحة تسريبات البكالوريا التي عجزت عن فك ألغازها لأن المتورطين فيها ليسوا من أصحاب الطابور الخامس الذين يسهل الانقضاض عليهم، وبالتالي فالسكوت في هذه الحالة حكمة من ذهب. لم تستطع، سيدي، وأنت الذي أمضيت حوالي أربع سنوات على رأس الحكومة، أن تغير البرامج والمقررات الدراسية التي ظلت كما هي تنطق بتناقضاتها الصارخة وثغراتها الكبيرة، وهذا يسجل في خانة فشلكم، لم تتمكن، سيدي، من تحديد المسؤوليات وضبط من يقفون وراء هدر 30 مليار درهم التي خصصت لتنزيل البرنامج الاستعجالي على أرض الواقع، لذت بالصمت ولم تعط الضوء الأخضر للسانك ليكشف عن أسماء من تلاعبوا بهذه الثروة المالية الكبيرة، لأن المعنيين بالأمر ربما هم من العفاريت التي تخيفك..، لم تتمكن سيدي من تخليص قطاع التعليم من توصيات وتوجيهات الدائنين الدوليين الذين ازددت خنوعا وخضوعا لهم، ولم تتوقف عن مد يد السؤال لهم بالاقتراض حينا وطلب المساعدة حينا آخر، في الوقت الذي اعتمدت فيه حكومات الدول التي تحترم سيادتها الوطنية على مقدراتها الذاتية، وعمدت إلى خلق مشاريع وجلب موارد أغنتها عن ذل سؤال البنك الدولي وصندوق النقض الدولي وغيرها من المؤسسات التي تعطي بيد، وتتسلم أضعاف ما أعطت ما ديا ومعنويا باليد الأخرى، ما جعل المفكر الحر المرحوم المهدي المنجرة يصيح عاليا، داعيا إلى إبعاد التعليم على الأقل عنها، لأنها ستفسده لا محالة بتوجيهاتها نظير ملايين دولارات لا تساوي شيئا أمام الكرامة المهدورة: "أعتقد أن القطاع الوحيد الذي لا ينبغي أن يعتمد على درهم واحد من خارج جيوب المغاربة هو قطاع التعليم، حفاظا على كرامة الشعب المغربي". من العبث، سيدي، أن تتحدث عن إنجاز كبير أو صغير لحكومتك في مجال التعليم في ظل وضعية أوضحنا بعض سماتها، ومن أكبر العبث أن تعتبر ضبطك للإيقاعات الزمنية وفرضك على رجال التعليم الالتزام بأوقات العمل إنجازا عظيما، وكأن هؤلاء كانوا يلتحقون بمؤسساتهم ويغادرونها وقتما يشاؤون، حتى أتيت أنت ففرضت عليهم الانضباط لوقت العمل..، إذا كان حديثك هنا عن رجال الإشراف التربوي (المفتشين)، فأعتقد أن الأمر ليس كما تقول، فطريقة اشتغالهم لم تتغير، وهنا أسألك سيدي الوزير، هل تعلم بأن كثيرا من المفتشين يشتغلون في جهة بكاملها، ولو قضوا السنة متنقلين بين المؤسسات لزيارة الأساتذة فقط لما وجدوا الوقت لذلك، بله أن ينظموا اللقاءات والندوات التربوية؟ وهل تعلم أن نيابات تعليمية تفتقد إلى مفتشين، وأن بعضهم ينتقل من نيابة أخرى متطوعا ليزور مدرسا زيارة يتيمة لهدف إداري يرتبط بالكفاءة التربوية والترسيم، ويبقى هذا الأستاذ بدون توجيه، ودون أن يجد مشرفا تربويا يستشيره فيما يعن له من مشاكل أثناء ممارسته الصفية؟، ألست فاشلا، سيدي، لأنك عجزت عن توفير أطر الإشراف التربوي للمدرسين كي يستفيدوا من توجيهاتهم؟ أي ذنب ارتكب هذا المدرس ليعاقب مرتين، إحداها بالحرمان من التوجيه، والأخرى بجعله تحت مقصلة لسانك الذي لا يتورع في تسفيه عمله وتحميله مسؤولية فشل أنتم من تضعون حجره الأساس. ختاما، ألتمس منكم، سيدي، أن تكف عن مثل هذه الخرجات التي تسيء لبلدنا الحبيب، وتعطي انطباعا سيئا لمن هم الخارج عن المغرب وعن مواطنيه كما لو أنهم مستهترون، في يدكم السلطة التنفيذية التي تخول لكم ضبط الخارجين عن القانون، فوظفوها، وكفى من الكلام والتشنيع ومعاقبة هذا بجريرة ذاك، كما ألتمس منك أن تتساموا عن الخلافات الضيقة وعن منطق رد الصاع صاعين، فأنتم في منصب يفرض عليكم أن تكونوا للجميع ومع الجميع، وأخيرا أرجو أن تتخلوا عن خطاب المسرحة الذي يسيء إلى الواقع السياسي المغربي ويطبعه بطابع "الحلقة".