كثير من الصراعات الفكرية والإيديولوجية والثقافية التي دشنت لها الحركات الأصولية، فقهاؤها وعلماؤها، هي نتيجة لإيمانها العميق بأن لا تفسير يقارب الصواب إلا التفسير المحافظ للنص القرآني. هذا ما يجعلها تقول، رغما عنها وبصفة مضمرة، إنها تمتلك حقيقة ما يعنيه القرآن. ولأن القرآن هو وحي من الإله الخالق إلى عباده، فإن ادعاء امتلاك حقيقة معنى القرآن يؤدي بالأصوليين الإسلاميين إلى ورطة الادعاء بالولوج إلى المعنى الرباني الكامن وراء النص القرآني. هذا ما أسمّيه بالتفسير «المتجبر» للقرآن، وهو تفسير نجده عند الحركات الإسلامية وفقهاء الأصولية والعلماء المحافظين ومنظري الرجعية الدينية وحتى عن بعض أنماط الإسلام الرسمي الوهابي وغيره. هذا التفسير « متجبر» لأنه يدّعي امتلاك «الحقيقة»، أي أنه يتكلم من موقع جبروت السلطة المعرفية المطلقة، سلطة الولوج إلى كنه المعنى الرباني، وهذا الولوج ليس حسيا أو إحساسيا، كما نجد ذلك عند المتصوفة ورواد الطرق، ولكنه ولوج «معرفي» وإدراكي نابع من نوع من الإيمان الأعمى بأن منطوق النص القرآني يحيل إلى معناه بصورة أوتوماتيكية، وهذا المعنى واضح ومتجل وسهل الإدراك. التفسير «المتجبر» يطرح إشكاليات ابستيمولوجية وسوسيولوجية وسياسية عميقة. أولا، الإدعاء بمعرفة كنه النص القرآني يطرح إشكالية أن الذات القارئة والمستقبلة للوحي لها القدرة على الوصول إلى المعنى الأصلي، إلى العقل الخالص. نحن نعرف أن استعمال اللغة بحمولاتها الثقافية تتوسط دائما لمحاولة سبر أغوار المعنى؛ أي أن هذا الأخير يتأثر، بطريقة أو بأخرى، بعلاقتنا باللغة وباستعمالاتها الشخصية والثقافية والإديولوجية. إذن، المعنى الذي نصل إليه هو معنى خالص فقط من وجهة نظرنا نحن كذوات مفسرة، كذوات قارئة. إنّ ما نسمّيه «المعنى الحقيقي» للنص القرآني الذي يقول به الأصوليون وغيرهم تتوسط له اللغة، الأداة التي تتأسس عبر معاناة الشخص مع الرغبة والذات والآخر، أي عبر تاريخ شخصي سديمي يجعل اللغة كيف نستعملها وكيف نفسرها ملتصقة تماما بطريقة رؤيتنا للعالم ولذواتنا فيه. هذا يعني أن الولوج إلى المعنى لا يكون خالصا لأن اللغة ليست كذلك، أي أنها ليست أداة شفافة عملية وأمينة على نقل المعنى من المتكلم إلى المتلقي. على مستوى آخر، الادعاء بالوصول إلى المعنى الخالص في النص القرآني يجعل من الذات القارئة ذاتا تدعي الولوج إلى أسرار المعنى الرباني. إن هذا يقتضي نوعا من «تأليه» الذات. نحن نعرف أن القرآن وضع سياجا بلاغيا سميكا حول الذات الإلهية عبر الأسماء الحسنى وعبر وصف دقيق للقدرات الإلهية الممنوع على الإنس مضاهاتها. المنع هو منع ثيولوجي لأن محاولة المضاهاة فيها نوع من الهرطقة؛ وهو كذلك منع أخلاقي لأن ما هو مطلوب من بني الإنس هو معرفة حدودهم ومحدوديتهم. «تأليه» الذات هو غير مقصود ولكنه خطير: إنه يعطي لصاحبه الإحساس بأنه على حق والآخرين على خطأ، ويعطيه كذلك الجرأة لفرض الحق بالكلمة والموقف والسيف إن اقتضى الحال. ما نراه من فتنة جهادية من حولنا عبر العالم يرجع إلى تبني الكثير مقولة معرفة كنه كلام الله والقيام بأعمال لتطبيق هذا المعنى على البشر. الأخطر من ذلك هو أن العقاب الذي يتوعد به الخالق الخلق الذي زاغ عن الطريق يحاول «المجاهد الجديد» أن يطبقه الآن وهنا في الدنيا قبل الآخرة. «تأليه» الذات يكون إذن على مستويين: ادعاء امتلاك حقيقة المعنى الرباني من جهة، ومعاقبة من يخالفون المعنى المفترض في المؤمن المجاهد أنه وصل إليه من جهة أخرى. التفسير «المتجبر» لا يؤدي فقط إلى ورطة ابستمولوجية وثيولوجية، ولكنه له أبعاد سياسية نرى متجلياتها في الضوضاء والفوضى الجهادية التي تهز أركان المعمور في عصرنا الحالي. الوسيلة الوحيدة للخروج من هذه الورطة تمكن في تبني التفسير «المتواضع» للنص القرآني. التفسير المتواضع يقر بإنسانية المتلقي، بمحدوديته المعرفية، بالتصاقه بنسقه الاجتماعي والزمني وبضيق أفقه. مادام أننا بشر تتوسط اللغة ومعاناتنا معها والثقافة وانتسابنا لها والنمط الاجتماعي الذي يصقل وجودنا وتفكيرنا، تتوسط كل هذه الآليات لأي محاولة لفهم النص، خصوصا النص القرآني بحمولاته القدسية، فإن أية محاولة للتفسير والتأويل هي محدودة بتلك الآفاق والأنماط، أي أنها بشرية وإنسانية حتى النخاع. القول بوجود تفسير خالص وقار ولا غبار عليه ينطوي على مثالية أفلاطونية متجاوزة تكون بمقتضاها اللغة وعاء فقط، وثقافتنا طحلبا يسهل التعالي عليه إلى الزمن الخالد، زمن النماذج الأصلية والحقيقية. ما دام أن تفاعل اللغة والثقافة والذات والمجتمع هو ما ينتج المعنى، فإن هذا المعنى لا يمكن أن يتعالى على النسق الزمني والشخصي والثقافي والمجتمعي الذي أخرجه إلى الوجود. من جانب آخر، تعطي المقاربة المتواضعة حلا ابستمولوجيا لقضية تأليه الذات التي تقتضيها المقاربة المتجبرة. يقول محمد أركون بأن المعرفة الربانية هي بمثابة لوغوس متعال تم إحداث ثقب فيه، فخرجت شذرات الوحي للبشر لعلهم يعملون. أي أن الوحي جزء بسيط من عالم لا متناه من المعرفة الربانية تم إنزاله على الناس بلغتهم، لكي يفكروا فيه ويستمدوا منه العبر. أي أن المرجعية الدلالية للوحي القرآني غير متوفرة للبشر، لأنها موجودة على مستوى اللوغوس الإلهي. لهذا، فعلى البشر أن يستعملوا عقولهم أي لغتهم وثقافتهم ونسقهم الاجتماعي للتأسيس لمعرفة إنسانية، أي محدودة ومتناهية وملتصقة بحقبتهم، فيما يخص المعاني الممكنة لنص لا يمتلكون مفاتيح مرجعيته الدلالية. الأدهى من ذلك، هو أن النص القرآني يلح على هذه المقاربة الإنسانية، حيث الإحالة إلى كون القرآن أتى بلسان قومه ليعلمون، والتأكيد على أن العلم الحقيقي هو لله وحده، والتفصيل في الأسماء الحسنى التي تعطي بعدا لا متناهيا للقدرة الإلهية البعيدة عن محدودية البشر إلخ.. من جانب آخر، فإن المقاربة المتواضعة للقرآن لا تستثني خطأ التفسير، لأن الخطأ دليل على إنسانية المتلقي، على ضيق أفقه، لأنه لا دراية له بخبايا الأمور ودلالاتها. في الحقيقة، فإن الخطأ هو مؤشر على أن المؤمن حاول فك ألغاز الوحي الإلهي وما يهم هو المحاولة في حد ذاتها، لأن النية واردة وثابتة. كل الحديث عن الغفران والرحمة والثواب هي إشارات قوية بأن الخطأ في التفسير والتأويل (مع حسن النية بالطبع) هو شيء إنساني حتى النخاع. من جانب أخلاقي، تبدو المقاربة المتواضعة أقرب إلى القيم التي صارت الإنسانية تقول بها في العصر الحالي لمواجهة خطر الاندثار والكارثة البيئية العظمى والفتنة العارمة التي صارت تهدد كوكبنا. يقول الكثير من المنظرين أن عصر النهضة في أوربا (خصوصا الفكر الإنسانوي (La Pensée Humaniste)) بوأت الإنسان مركز الصدارة بدل المؤسسات الفيودالية القروسطية من كنيسة ونبلاء وبابا وغيرهم. غير أن الاكتشافات الجغرافية والتطور العلمي والصناعي والمغامرات الكولونيالية (للرجل الأبيض) أعطت الإنسان إحساسا بالجبروت والقدرة على السيطرة على الطبيعة. من هنا بدأت قصة تدمير المحيط والبيئة التي مازلنا نشهد فصولها إلى حد الآن. لهذا لجأ الكثير من المعارضين لهذه المغامرة الإنسانية التي لا تحمد عقباها إلى البحث عن بدائل فوجدوها في ثقافات الهنود الحمر والمايا وهنود الأمازون، والذين أسسوا لمقاربات لا تتوخى السيطرة على الطبيعة، ولكن التساكن والتعايش معها والإحساس بأن البشر هم فقط جزء منها ومن عالمها. من هنا أتت فكر المقاربة المتواضعة للقدرة الإنسانية والفعل الإنساني. وهي مقاربة أخلاقية قبل أن تكون سياسية أو اجتماعية. أظن أنه من السهل نقل هذا الموقف إلى قضايا التعامل مع النصوص الدينية. فالموقف الأخلاقي العميق هو في الإقرار بالمحدودية، بكوننا ندرك إلا ما يمليه علينا وجودنا في نسق معين يختلف عن أنساق أخرى سبقته وعن أنساق أخرى بعيدة عنه جغرافيا. كل هذا يعني أن ما نسميه الإسلام هو فقط فهمنا للإسلام. الإسلام كحقيقة متعالية لا يدركها إلا الله. لهذا يجب علينا أن نضفي نسبية تاريخية وسوسيولوجية لفهمنا للإسلام، وهذا يعني أنّ كيف نتصور الدين وكيف نتفاعل معه كمجموعات متجانسة ومتناقضة وكيف نعيشه أو نريد أن نعيشه كل هذا هو الإسلام. هذا يعني أنّ الاختلاف مع من سبقونا وفيما بيننا، وكيف نتصور الإسلام ونفهمه طبيعي بل وأساسي. إن الاختلاف هو أحد الشروط الأساسية للمقاربة «المتواضعة» للنص القرآني. لو تواضعنا في فهمنا للقرآن لتجاوزنا كل هذه الضوضاء والفتنة التي صاحبت عملية ما سمي ب»الإحياء الديني»، ونحن نعرف أن من تواضع لله رفعه. لنرفع من قيمتنا أمام الله بتواضعنا أمام ما أوحاه لنا في النص المقدس.