ما جرى ويجري في بحر غزة المحاصرة، أحداث سيكون لها تاريخ. سفينة «مرمرة» التركية التي سطا عليها كومندوس عسكري إسرائيلي، وقتل داخلها 16 ناشطا من أجل السلام، ستدخل إلى متحف التاريخ. الدماء التي أريقت في بحر غزة الجريحة ستشكل منعطفا كبيرا في هذا الصراع الطويل. لنتأمل الصورة جيدا... تركيا التي كانت حليفة لإسرائيل منذ عقود.. تركيا العضو في الحلف الأطلسي، والتي تربطها علاقات استراتيجية بالدولة العبرية، ماذا قال زعيمها رجب طيب أردوغان: «إنه إرهاب دولة، عمل دنيء غير مقبول، وعلى إسرائيل دفع ثمن ذلك. تركيا لن تدير ظهرها للشعب الفلسطيني، ولن تغمض عيونها، وستتحرك وفقا لما يليق بها وبتاريخها». وأضاف أردوغان بنبرة غضب قوية: «على المجتمع الدولي أن يقول كفى لإسرائيل التي وضعت الإنسانية تحت الأقدام. لا يمكن أن تنظر إسرائيل في وجه العالم إذا لم تعتذر وتحاسَب. إسرائيل أظهرت للعالم أنها تجيد الإبادة بشكل دائم»، وحذر زعيم الأتراك إسرائيل من اختبار صبر تركيا وقال: «عداوة تركيا قوية مثل صداقتها». سقطت إسرائيل في ورطة كبيرة، ووضعت نفسها في مواجهة العالم بأكمله.. لم يخرج ولو صوت واحد يدافع عن إسرائيل هذه المرة، وهذا «انقلاب» كبير في ميزان هذا الصراع الذي كانت كفته تميل دائما لصالح المحتل، ليس لأنه الأقوى، ولكن لأن العرب هم الأضعف، ولأن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تفلح في خرق «الغطاء» السميك الذي لفت به إسرائيل نفسها. هذا الغطاء الذي كان يلعب على «تاريخ محرقة اليهود في أوربا على يد النازية»، وعلى ديمقراطية إسرائيل ودكتاتورية أعدائها، وعلى تحالفها مع الغرب ضد تحالف العرب مع الشرق، وعلى وجود لوبي إسرائيلي قوي في أمريكا وأوربا كان يحرث الأرض لساسة إسرائيل لحصد نتائج سياسية وعسكرية تعزز هيمنة إسرائيل على العرب، وتبقي الأرض في يد مغتصبها. اليوم يوجد على متن سفن السلام، التي جاءت تدين سياسة العدوان والحصار والاحتلال، أحد الناجين اليهود من المحرقة النازية، وروائي سويدي كبير، وناشطون سياسيون أوربيون وأمريكيون وأسيويون وعرب وأتراك... باختصار أمم متحدة أخرى غير تلك التي يرأسها بان كي مون، لهذه الأسباب فقدت إسرائيل أعصابها، وسمحت لقواتها بقتل رسل الإنسانية... ليس فقط لأنهم حاولوا كسر الحصار، ولكن لأنهم كسروا «أسطورة» الصهيونية، وأزالوا قناع الدولة التي تحارب «الإرهاب» من أجل ضمان سلامة اليهود الذين اضطُهدوا عبر التاريخ! الشرعية الأخلاقية لا تقل عن القوة العسكرية، لهذا إسرائيل غاضبة اليوم، كما لم تغضب من قبل، لأن «مرمرة» أكثر قوة من صواريخ حماس والأجساد المفخخة لعناصر المقاومة. اليوم ليس عرفات، ولا مشعل، ولا نجاد، ولا حسن نصر الله، ولا عبد الناصر، ولا أبوجهاد من يتصدر المواجهة مع إسرائيل.. إنه رجب طيب أردوغان التركي المنتخب ديمقراطيا في بلاده، التي كانت تقليديا حليفة لإسرائيل، لهذا فإن صوته مسموع أكثر من كل الحكام العرب، الذين تعرف إسرائيل بالتجربة أنهم «ظاهرة صوتية» ليس إلا. اليوم هناك يهود في مواجهة الدولة العبرية، وأوربيون لم يعد ضميرهم يرضى أن يسكت على الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل منذ 60 سنة. هذا هو الطريق الصحيح. لا بد من إحراج إسرائيل في الغرب، ونزع الشرعية الأخلاقية عن حكامها، وتحويلها إلى «شاة» جرباء لا يقترب منها أحد، تماما كما كانت دولة جنوب إفريقيا في عهد نظام الأبارتايد المقيت. لا بد من جر إسرائيل إلى المواجهة مع العالم ومع ضمير البشرية، وعدم حصر المعركة ما بين إسرائيل وحماس وإيران وحزب الله... لا تتصوروا أن مشهد الإدانة العالمية وصور المظاهرات في كل الدول ستمر هكذا... لو كان الأمر كذلك، لما قطع نتنياهو زيارته إلى كندا وتخلف عن لقاء باراك أوباما، ورجع إلى تل أبيب لإطفاء الحريق الذي يأكل صورة المحتل.