في الدول المتقدمة، عندما تحدث ظواهر غريبة عن المنطق يعمد المختصون إلى البحث عن الأجوبة والتفاسير المحتملة ولا يركنون أبدا إلى الحلول الجاهزة عن طريق إلصاقها بالجن والقوى الغيبية القاهرة.. لهذا السبب، وبفضل طريقتهم هذه في التفكير، تمكنوا من حل رموز عدة خرافات استوطنت عقول البشر لآلاف السنين وما زال أمامهم عمل كبير للإحاطة بما تبقى من الظواهر التي عسر فهمها.. وفي ما يخص موضوعنا ما زال الناس يتشبثون بتفسيرات آبائنا الأولين، وما زال بعض الفقهاء يلجؤون إلى الاستشهاد بابن تيمية وبن قيم الجوزية للتدليل على وجود التلبس.. متجاهلين أن بن تيمية والأجداد من السلف الصالح لم يكن يتوفر لهم من العلم ما يكفي لتبرئة الجن من هذا البهتان العظيم.. علميا ليس هناك شيء اسمه التلبس؛ هناك فقط مرض الصرع وبعض الاضطرابات العصبية الأخرى.. وبالنسبة إلى ذلك الذي «يُصْرع» ويهرطق بكلام أجنبي غير مفهوم فلا علاقة للأمر لا ب"رياح" أو «عظام» أو «عيشة قنديشة» سكنته، والحقيقة تجد قليلا من الشرح في ما يلي: بداية كل واحد منا له جانبان من وجود "الجزء الواعي" و"الجزء غير الواعي".. ونحن في حياتنا اليومية نتعرض لعشرات الخبرات، ونستوعب آلاف المعلومات عن طريق الحواس الخمس.. والمعلومات التي تدخل رؤوسنا لا تنحصر في تلك التي ندخلها بشكل واع وإرادي (كحفظ درس في المقرر مثلا)، بل تمتد إلى باقي التفاصيل الصغيرة جدا كحالة الطقس وما يلبسه الآخرون، وكل كلمة ينطقون بها وكل حركة يؤتونها وما نسمعه على التلفاز، أو مرورا من أمام مقهى صاخبة وغيرها من آلاف المعلومات التي تدخل أدمغتنا يوميا بشكل لا إرادي، لا شعوري.. ومن المنطقي جدا ألا يكون في مقدورنا الاحتفاظ بكل معلومة أو تفصيلة واردة علينا، لأن قدرة ذاكرتنا الاستيعابية الواعية محدودة، وهو ما يعالجه الدماغ تلقائيا عن طريق التخلص من المعلومات غير المهمة عبر رميها إلى دائرة اللاشعور، حيث تخزّن هناك إلى الأبد (من المعروف أن مشكلة الإنسان تكمن في استرجاع المعلومة وليس في تخزينها)، وحيث لا يمكن استرجاعها إلا في حالة لا واعية، ولهذا السبب بالضبط نحلم بشخص لم نره منذ عشرين سنة ودون أي محفز، ولهذا أيضا تخطر علينا مشاهد مضى عليها زمن سحيق دون سبب واضح وكأن اللاشعور يرمي ببعض هذه الذكريات بشكل عشوائي إلى دائرة الوعي، وهناك عشرات الأمثلة التي تحتاج حيزا أكبر من هذا.. والدخول في نوبة صرع يعني الدخول في حالة لاشعورية، وهو ما يعني إمكانية استرجاع أي شيء من ذاكرته تلك بما فيها «تعليق رياضي» سمعه «المصروع» قبل 20 سنة على قناة برتغالية، حيث يمكنه ترديد نفس كلام المذيع وبنفس صوته ونبرته رغم عدم إتقانه للبرتغالية (وهو الأمر الذي يدفع الفْقيه إلى الاستنتاج أن الرجل «مسكون» بجني من أرض البرتغال الشقيقة).. الأكيد أخيرا أن قدرة «الصروع» على تقليد صوت المذيع في حالته اللاواعية تعني أيضا قدرته على التكلم بصوت امرأة إن كان رجلا، وبصوت رجل إن كانت امرأة.. لم أقل كل شيء فالحيز أضيق من شساعة الموضوع، ولتكن إذن مجرد دعوة إلى التفكير والبحث، إن لم يكن هناك من سبيل إلى الإقناع..