"يتميز حزب العدالة والتنمية بأنه حزب يحرص على استحضار الأخلاق في العمل السياسي". موضوع هذا المقال هو إزالة هذه الغشاوة. سأعرِض في البداية تصور حزب العدالة والتنمية، وهو تمثل العامة من الناس، لنوع الأخلاق التي يعلن هذا الحزب أنه يستحضرها في عمله السياسي. سأقوم بعد ذلك بدحض هذا التمثل التبسيطي، وذلك من خلال تمحيصه على ضوء نمط الأخلاق المطلوبة في العمل السياسي. 1 –أخلاق المتوحد، أو التلبيس على الناس في تدبير أمور الناس: في بدايات حكومة "البارشوك السياسي"، احتك الناس في حياتهم اليومية بوزراء "العدالة والتنمية". وقد تحدث المواطنون عن مظاهر البساطة التي ميزت تحركات هؤلاء الوزراء، مقارنة بوزراء الحكومات السابقة. وقد شكل هذا التواصل "بروفايل" مثالي للوزير الذي كان يتمناه المغاربة لتسيير شؤونهم العامة. ما هو هذا البروفايل؟ إنه بروفايل الوزير المتواضع وغير المتعجرف، الذي يزْدرِدُ "البيصارة" مثل خلق الله "العاديين". إنه أيضا الوزير الذي يؤدي صلاة الاستسقاء مثل كل المقهورين والمفجوعين الذين أعطبهم الجفاف؛ بل إن هذا الوزير لا يتأفف من الصلاة فوق حصير لا يقل "بساطة" عن حصير عمر بن عبدالعزيز الذي في خاطرنا، ولا يتأفف وهو ينتعل الحذاء وقد دكَّه الوزير بقدمه دكا، حتى أصبح كحذاء "الطُّنبوري". إن المخيال العامي المبتهج بهذه الصورة، لا شك أنه كان يستحضر صورة تاريخية لا زال لها صدى في المخيال العام للناس؛ إنها صورة الخليفة العادل وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وصورة الخليفة الأموي "الراشد" عمر بن عبدالعزيز. لم يكن هذا البروفايل حاضرا لدى العامة من الناس فقط، بل يمكن الجزم أنه كان حاضرا لدى حزب "العدالة والتنمية" نفسه. لكن حضور هذا البروفايل داخل الحزب لم يكن على نمط واحد؛ كانت هناك نظرة القواعد العريضة للحزب، ونظرة القيادة على مختلف المستويات. فالقطاع العام للحزب كان يشارك العامة من الناس تلكم النظرة التبسيطية والاحتفالية بصورة الوزير "المتواضع". لكن "الدهاة" من القياديين كانوا بدون شك على علم بحدود هذا النموذج، لكنهم لم يكونوا يجهلون القيمة السياسية لهذا النموذج، ودوره في الحشد والتعبئة، بل وفي التلبيس والتنويم. لهذا كان من مصلحة تلك القيادة، أن تُذَكِّر العالمين كل حين وآن ب "أخلاقيات" مناضلي وبرلمانيي ووزراء الحزب. إن عدم اعتراض القيادة الحزبية على هذا الفهم التبسيطي لنمط الأخلاق المطلوب حضورها في العمل السياسي، يجعلنا نتجاهل تميز الوعي الحاد لدى القيادة، ويدفعنا للقول إن هناك تمثلا واحدا ومشتركا لللأخلاق داخل السياسة، لدى العامة من الناس ولدى حزب "العدالة والتنمية" قيادة وقواعد. الآن أي نوعٍ من الأخلاق هذه التي يؤكد الحزب أنه يتميز عن غيرها باستحضارها في عمله السياسي؟ إنها الأخلاق الفردية. إن المواطن العادي يكفيه أن يتميز السياسي بخصال أخلاقية فردية، تجعل منه –أي السياسي- مسؤولا لا يعاقر الخمر ولا يشرب السجائر ولا يكذب ولا يفسق ولا يفجر، لين العريكة، سهل المعشر، طيب الخلق، حلو اللسان، يوثر على نفسه. هذه كلها أخلاق فردية لا يمكن للإنسان إلا أن يتمنى حضورها لدى أي فرد، فكيف ينكر حضورها لدى السياسي. لكن ما يجب العلم به، هو ان هذه الخصال الفردية، وإن كانت تزيد السياسي بهاء وجمالا سلوكيا، فهي ليست شرطا ضروريا لا يقوم التدبير السليم للشأن العام إلا به. إنها مهمة لكنها ليست ضرورية ضرورة وجود، بل هي "ضرورية" ضرورة تجويد وتحسين. لماذا ينتشر هذا التمثل الفرداني/ الأخلاقي للأخلاق السياسية لدى المواطن؟ لماذا تتمثل الانتظارات "الأخلاقية" للمواطن من "الوزير" في هذا البعد الفردي؟ حينما تتضرر الحياة السياسية في وطن ما، ويعم القحط المجال السياسي، تتراجع تطلعات المواطن نظرا لتراجع الخدمة السياسية. تضمُرُ الثقافة السياسية وتنمحي، فيصبح مطلب المواطن الرئيسي هو تحقيق الوجود "الحيواني" المرتبط بالمأكل والمشرب، وتتراجع مطالبه في الوجود "السياسي" بوصفه –الوجود السياسي- التحقيق الطبيعي للوجود الإنساني (أرسطو). ومن مظاهر حضور التعطش إلى الوجود "الحيواني"، أن يتمنى المواطن، إضافة إلى الخبز، أن يتلقى معاملة تحترم الحد الأدنى مما تبقى من إنسانيته. هكذا يصير منتهى منى المواطن هو أن يجري التعامل معه بلطف وبقليل من الاهتمام. ومن مظاهر هذا اللطف أن يبستم في وجهه الوزير، وأن يشاركه "البيصارة" المسؤول، وأن يصلي معه الوزراء في صف ك "أسنان المشط"، كلهم سواسية أمام رب العباد. هذه هي شروط ميلاد ابتهاج المواطنين بوزراء يمشون في الأسواق و تأكل أمهاتهم القديد. وما دامت هذه الشروط وشروط أخرى موجودة، فلن يتخلص الناس من بؤسهم المعيشي، لأنهم ينخدعون أمام خطاب تهريبي، يستعمل "أخلاق تدبير النفس" خارج مجالها، ويطرحها بديلا عن "أخلاق تدبير المدينة" في تسيير الشأن العام. هكذا تصير هذه الأخلاق الفردية مجرد "أفيون" للشعوب، بدل أن تكون "فيتامين" للمستضعفين، خصوصا لو استعملت في مجالها الطبيعي لتصبح مكملة ل"أخلاق تدبير المدينة". 2- أخلاق السياسي، أو أخلاق "تدبير المدينة": تتأسس نظرة "العدالة والتنمية" لنوع الأخلاق المطلوب حضورها في السياسة، على أطروحة عامة تمتلك تصورا خاصا للسياسة. تحضر هذه الأطروحة لدى عدد كبير من الحركات الاسلامية. قوام هذه الأطروحة هو التمييز بين الدعوة والسياسة ( لا تحضر هذه الثنائية لدى الاسلاميين فقط، بل نجدها لدى "العلمانيين" أيضا، وتتشكل من طرفين هما السياسي والحقوقي، وأيضا من السياسي والجمعوي. أي أن هذه الثنائية تقوم على خلق نوع من التقابل بين ما هو سياسي وما هو "تربوي" سواء كان هذا التربوي عبارة عن قيم دينية أو قيم حقوقية أو قيم جمعوية/كشفية). أغلب الحركات الاسلامية تعتبر أن الدعوة أشرف من السياسة. فالأولى تقوم على التربية الإيمانية وعلى التأدب والتهذيب الأخلاقي للمناضل. أما الثانية فتقوم على التكوين الفكري والسياسية الذي لا يتورع عن استعمال الوسائل التي تتعارض مع التربية الإيمانية. هذه الأطروحة العامة ليست بنفس العمومية لدى كل الحركات الإسلامية. هناك حركات وقوى، ومن بينها حزب "العدالة والتنمية"، أصبحت لا تنظر إلى "السياسة" على أنها كلها "رجس" مقارنة ب "الدعوة". تعتبر هذه الحركات "المجتهدة" أن السياسة سياستان؛ هناك سياسة "وسخة" وهناك سياسة "نظيفة". إن ما يجعل السياسة وسخة هو ارتكازها على مبادئ النفعية والمصلحة. وما يجعل السياسة "نظيفة" هو استحضارها لمكارم الأخلاق. والسبيل إلى تكوين هذه المكارم وتحقيقها لدى المناضل السياسي، هو خضوع هذا المناضل لبرنامج تربوي في محاضن منفصلة عن ضجيج العمل السياسي المهدد بالأوساخ. ومعيار حصول الخلق التربوي لدى المناضل هو تحقق "سحنة" أو بروفايل "المناضل "المسلم المؤمن". إن هذا "الاجتهاد" الذي أعطى ل "السياسة" شرعية وجود مقابل "الدعوة"، هو اجتهاد محدود، لأنه "أنقذ" السياسة من التحريم والتجريم حينما منحها شارات الشرف، لكن هذه الشارة ارتبطت ب "الأخلاق الفردية"، (فعندما نطرح السؤال، وهو سؤال غير دقيق، كيف نقحم الأخلاق في السياسة؟ يجيبنا حزب العدالة والتنمية، إن ذلك ممكن من خلال تحصين المناضل وتربيته تربية "أخلاقية" تمنعه من ارتكاب الإثم. والإثم هو كل ذنب، أي أنه مقولة "دينية" تتعلق بما هو فردي لدى المناضل.) إن السياسة لها أخلاقها، وهي أخلاق عامة أو أخلاق مدنية. كيف ذلك؟ سيكون جوابنا هنا جوابا تشخيصيا. سنشير إلى مقتطفات من الأداء الحكومي السياسي للحزب. لم يتنبه حزب "العدالة والتنمية" إلى أن "الأخلاق" مستويات وأنماط. الأخلاق مستويان. فهناك الأخلاق الفردية، أو الخصوصية وهناك الأخلاق الجماعية أو السياسة. حينما تباهى الحزب بالأخلاق العالية التي يتمتع بها، فقد تباهى في واقع الأمر بالأخلاق الفردية لمسؤوليه. (ونقبل جدلا أن الحزب على هذا المستوى في وضع سليم). إن ما غفل عنه الحزب، هو ان العمل السياسي له منطقه الخاص، وبالتالي فله أيضا أخلاق خاصة به. إنها أخلاق جماعية ومدنية. الأخلاق أنماط. فهناك الأخلاق التجارية وهناك الأخلاق الدينية والاخلاق الخلقية/الذاتية وهناك الأخلاق السياسية أوالمدنية. حينما تباهى حزب "العدالة والتنمية" بأخلاق مناضليه، فإنما تباهى بأخلاقهم الدينية والخلقية. وهذه أخلاق محمودة لا ينكرها إلا مجنون. لكن ما هو مطلوب ممن تولى تدبير الشأن العام هو التحلي بالأخلاق السياسية والمدنية. يمكن تلخيص النقطتين الآنفتين في ما يلي: لقد أخلَّ حزب "العدالة والتنمية" بشرط "تخليق" العمل السياسي، حينما حصر "الأخلاقي" في ما هو فردي من جهة، وفيما هو روحي ذي إيحاءات دينية من جهة أخرى. لقد أغفل الحزب البعد العمومي والبعد المدني للتخليق. إن "الأخلاق" المدنية أو السياسية، هي ما يمكن تسميته بالمعروف وقيم المروءة. والمعروف هو ما اصطلح الناس بعقلهم الطبيعي على أنه سليم. ومما هو في عداد "المعروف" وفي عداد المروءة، أن يحترم السياسي الوعود والالتزامات. وسنذكر هنا شذرات فقط، إذ أن ذاكرة المغاربة تحفظ الكثير، وقد نحتاج إلى "كتاب أسود" من مجلدات لتدوين وتعداد حالات إخلال الحزب بوعوده والتزاماته. الوعود: لقد وعد حزب "العدالة والتنمية" الشعب المغربي بمحاربة الفساد. وقد خاض الحزب حملته الانتخابية وهو يرفع قويا شعار الفساد، بل إنه أشار بالاسم إلى رموز للفساد. ومن أشهر المرافعات والسجالات التي خاضها الحزب ضد من اعتبرهم رموزا للفساد، سجاله مع وزير المالية السابق ورئيس حزب "التجمع الوطني للأحرار" مزوار. ونشاهد اليوم جميعا كيف ابتلع الحزب كل ما قذف به خصمه مزوار، في عملية تزوير كبيرة لنبل العمل السياسي. هذا التلون والتقلب في المواقف هو أخطر مقتل لأخلاقيات العمل السياسي. لا يهمنا صلاة الوزير على الحصير، فذلك عمل محمود يستفيد منه وحده، ما يهمنا هو "أخلاق تدبير المدينة". فالإخلال بهذه الأخلاق سيفيد الحزب في الحفاظ على الكراسي، لكنه مضر غاية الضرر بالشعب. ومن مظاهر الفساد التي تراجع الحزب عن وعده بمحاربتها، نذكر الفساد الأمني. بمناسبة التظاهر السلمي احتجاجا على عفو الملك عن مغتصب الأطفال، رأينا قوات الأمن تعتدي وتسحل المواطنين. والغريب في هذه النازلة هو أن وزير الداخلية، نعم وزير الداخلية صرح بأنه لم يعطي أي أمر لقوات الأمن التابعة له بقمع التظاهرة السلمية فأي فساد أكبر من أن تكون قوات نظامية، توجد رسميا تحت إمرة الحكومة، تتلقى أوامرها من المجهول؟ أي فساد هذا الذي يجعل وزيرا لا "يحكم" وزارته وقوات تابعة لوزارته؟ وقد أعلن الوزير الوصي أنه فتح تحقيقا في الأمر. ولحدود يوم الناس هذا، وبعد شهرين لم يصدر شيئ عن التحقيق. فأي فساد هذا الذي يجعل الوزير بل الحكومة، مثل مواطن مغلوب على أمره، محروم من حقه في الوصول إلى معلومة بسيطة: من أمر الأمن بالاعتداء على تظاهرة سلمية؟ إن هذا الفساد يكشف عن فساد أعمق، بل هو جدر كل فساد: إنه الفساد الدستوري الذي يمكن تلخيصه في السؤال الآتي: ألم يمنح دستور فاتح يوليوز 2011 رئيس الحكومة صلاحيات تشمل سلطته على حكومته، وسلطة كل وزير على وزارته؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فمن أعطى الأمر للأمن بالقمع؟ إذا عجزت الحكومة عن الجواب على من أمر بالقمع، فهذه نهاية دستور فاتح يوليوز، وإعلان أن الفساد يمس الدستور نفسه. إن الحزب الذي وعدنا بمحاربة الفساد، لن يكون حزبا يستحضر "الأخلاق" في العمل السياسي، إن لم يكشف عمن قمع التظاهر السلمي. لا نريد منك أن تشاركوننا أكل "البيصارة"، بل ازدردوا الكافيار، لكن رجاء كونوا أصحاب مروءة وأعلنوا عن تدبير أخلاقي ومدني للشأن العام. الالتزامات: قبل توليه جزءا من "السلطة التنفيذية"، أعلن حزب "العدالة والتنمية" مجموعة من الالتزامات. نكتفي بالتزام سياسي وحقوقي واقتصادي. لقد التزم الحزب بتمكين المغاربة من حقوقهم السياسية عامة، وحقهم في التنظيم خاصة. وفي هذا الإطار صرح بعض قادة الحزب، أنهم بمجرد ما سيتولون المسؤولية سيحلون مشكلة حزب الأمة (وإن كنا لا نعول على من لا يمتلك قراره بيده) وحزب البديل الحضاري. لكن بعد تمكينهم من كرسي المسؤولية التنفيذية استسلموا لمن يمارس الحكم الفعلي في هذا البلد، وتواصلت محنة الحريات السياسية بالمغرب. التزم حزب "العدالة والتنمية" بحل مشكلة المعتقلين الإسلاميين عامة وما يسمى بخلية بليرج خاصة. لكن فور الجلوس على الكرسي تنكر الحزب لكل التزاماته. التزم حزب "العدالة والتنمية" بالنظر في حقوق المعطلين، لكنه واجههم بالقمع. ثم زايد عليهم بالقانون، فالتزم بتمكينهم من حقوقهم إن استصدورا حكما قضائيا لفائدتهم. لكن الحزب "الأخلاقي" جدا جدا، كان أسرع من البرق في رفع الحكم الصادر لصالحهم إلى الاستئناف. 3- خاتمة غضب: إن عدم الوفاء بالوعود، هو قمة انعدام الأخلاق في السياسة. إن مهادنة الفساد هو قمة انعدام الاخلاق في السياسة. إن إشراك حزب وزير المالية السابق،المطعون في تدبيره للعلاوات المالية في وزارة المالية، في حكومة "محاربة الفساد" هو قمة انعدام الأخلاق في السياسة. تخليق " العمل السياسي" ليس هو أكل البيصارة في المطعم البلدي. تخليق "العمل السياسي" ليس هو الصلاة فوق حصير الشوك والسمار. تحليق "العمل السياسي" ليس هو التشبه بعمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز فيما هو خاص وتسليم العام للصوص. فبقدر ما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شديدا في نفسه، كان شديدا مع الولاة ومع الشأن العام. هل يمكن ل "رئيس" حكومة البارشوك أن يردع أبناء علية القوم الذي يعتدون على المستضعفين، بل وعلى رجال الأمن أنفسهم؟ هل يمكنه أن يقول لهم، مع حفظ الظروف والسياق، خذوها مني وأنتم ابناء الأكرمين؟ تأكلون البيصارة، وعيونكم على زهد عمر بن عبدالعزيز، فهل تعملون بقولة عمر "هذه شمعة عمر وهذه شمعة بيت مال المسلمين"، هل تعملون بهذه القولة وتوجهونها لوزير المالية السابق الذي كان يتبادل الإتاوات مع مرؤوسه كما يتبادل الأطفال الكرة؟ تمارة السبت 07 شتنبر 2013