قضية لباسِ المرأة، قضيةٌ محسومة، إذ يتولى تنظيم هذا الأمر، العرفُ والسلطة الأخلاقية والوعي الجمعي للمجتمع (أي مجتمع)، وتغيير هذا النمط، يحتاج إلى معطيات متظافرة، وزمنٍ ليس بالقليل، وهو رهان غيرُ مضمونٍ، وغيرُ سريع المردودية والنتائج، والأهم من هذا وذاك هو، لماذا تريد المرأة أن تتعرى؟ وما علاقة العري بالحرية والوعي والتقدم والرُّقي !!!!!!؟ يتوجّبُ علينا أولا أن نعرف ماذا تريدُ المرأة بالضبط؟ تم ننظرَ في الطريقة والكيفية التي يمكن بها تحقيق نوع من التراضي بين مبتغاها والحدود التي يرسمها لها العُرف والثقافة وسلطة المجتمع. في أوروبا، وبالضبط في القرون الوسطى حيث هَيْمنَتْ الكنيسة ورجالَها الإقطاعيون على كل شيء، وكرّسوا مجتمعاتٍ ذكورية بحتة، وجعلوا من المرأة مجردَ مصنع لإنتاج الجنود والعمال، وملهىً لتفريغ شهواتهم ونزواتهم، بل وصلوا في دونيتهم للمرأة، إلى الشكِّ في كونِها إنسانا فعلاً، أم رِجسًا من عملِ الشيطان (روحا شيطانية). ثُم تَطلَّبَ الأمرُ قرونا من الزمن (ثوراتٍ وحروبا وهزاتٍ هَدمت أوروبا عن بكرة أبيها لتُبنى من جديد) لتصبح أوربا على ما نراها عليه اليوم. رغم أن المرأة في الغرب لم تتحرّر بالمنظور الذي يتوهَّمُه كثيرٌ من السُّذَّجِ اليوم. إن البناءَ والهدمَ الذي مرّتْ منه أوروبا، لم يكن أبدا لأجل المرأة، ولا لتمكين المرأة من لبس التنورة أو السيرِ عارية. ولكن (تحرر المرأة) في أوربا، جاء نتيجة تحرر الأوربيين من عبودية الكنيسة للناس وقهرِها لهم، وتحجيمها لعقول البشر، واستئثارها بالثروة والنفوذ والسلطة، وتمتيع بعض البرجوازيين والأرستقراطيين الذين شكلوا مع الكنيسة تحالفا كان عبارةً عن زواجِ (المال بالسلطة) خدمةً لمصالحَ محدودة، ولأشخاص محدودين. سقطتْ الكنيسة إلا مِن وَضْعِها الرّمزي والاعتباري، وظلتْ البرجوازية والمال هما مَن يَحكم، ونِتاجُ كل هذا ومردودِيَّتُه بالنسبة للمرأة في المحصلة يكادُ يكون (لا شيء)، باستثناء بعض المكتسبات كالتعليم، في حين لا تزال المرأة الأوربية في نظر البيروقراطية والبرجوازية العالمية المتوحشة، مجرّدَ وسيلةٍ وضِيعةٍ مِن وسائلِ التسويق والإشهار، ومادةً مثيرة وجذّابة، تصلح لجني المال، وتحقيق الأرباح لا أكثر. لقد تحررتْ أوربا من قيود الكنيسة، ولكنها أصبحت بلادا بلا روح، تُقدّس المادة، وترفع شعار الإلحاد وتَكفُر بالدين (أيّ دين)، وتُعطي للكنيسة سلطة اعتبارية ورمزية وحسْب، وتَعتبر (الدين) سببا في تخلُّفها قبلاً، وسببا في تخلفِ كثير من الأمم الأخرى التي مازالَ للدين فيها سلطةٌ حقيقية (التشريع والقضاء). إن موضوع تحرير المرأة مطلبٌ مُلحٌ، خصوصا تحريرُها مِن بعض الممارسات والأفكار الدونية التي تُوصمُ بها المرأة (في الغرب كما في الشرق)، ولكن، يستحيل إعطاءُ الدواء من دون تشخيص الداء، كما لا يمكن أن يتولى هذا الأمرُ إلا أهلُ الدِّراية والاختصاص، أما ما يُسمع الآن من جعجعة صادرة من حفنةٍ من المغمورين والأميين والسفهاء وأصحاب الكَبْتِ والعُقدِ النفسية، لا يعدوا كَوْنَهُ صيحةً في واد، والدواء والحل عندهم للمرأة جاهزٌ دائما وأبدا، وضحلٌ كضحالَة عقولهم وأفْهامِهِمْ، وهو (التنورة وتعرية اللحم) !!. تعتبر مصر أولَ دولة عربية خاضت غمار تحرير المرأة مع مطلع القرن ال20 (1900م)، وانبرى لهذا الغرض، ثلة من الأعلامِ الوازنين على الساحة العربية، والأكاديميين المشهودِ لهم من أمثال: قاسم أمين (كتابيْ: تحرير المرأة/ المرأة الجديدة) ، محمد عبده، سعد زغلول، أحمد لطفي، هدى الشعراوي، وصولا الى أحمد أمين، وطه حسين…، كلهم انبروا الى إعادة الحقوق التاريخية المسلوبة مِن المرأة، والقضاء على الأفكار التي تنظم المجتمع المصري على أساس ذكوري، مستفيدين من موروث الثورة الفرنسية في مصر، والأسس الديمقراطية للمملكة المتحدة، بعد أن عاشوا وعاينوا الفروق الصارخة بين المجتمعات العربية، ونظيرتها الغربية، خصوصا في باريس ولندن وبروكسيل، كما خاضوا حروبا حقيقية في سبيل تمكين المرأة من دخول غمار الحياة السياسية والاقتصادية، ورفع التمييز الجنسي، وإحقاق مبدأ الكفاءة بينها وبين الرجل، وغيرِ ذلك من المطالب والحقوق. كل هؤلاء كانوا بحقٍّ أناسا أكاديميين، وكان لهم من القَبول والصَّيْتِ الذائعِ، النصيبَ الأوفر. فقد بدلوا من الأسباب والوسائل الحقيقية ما بدلوا مِن تأليفٍ ودراسات ونظريات و…، في سبيل تمكين المرأة من بعض حقوقها، ثم خَلَقَ مِن بعدهم خَلْفٌ تنكروا للمطالب الأولى وسعوا باسم المرأة في غير مصالح المرأة، ثم انظروا الى مصرَ اليوم كيف هي !! لقد صارت من أكثر الدول العربية التزاما ومحافظة، وتشبثا بالقيم الاجتماعية والثقافية والعُرفية للإنسان العربي، إن السلطة الأخلاقية للمجتمعات المحافظة هي من يُفشل تلك المحاولات والمخطّطات المشبوهة، كاستجابةٍ طبيعيةٍ للحرب الخاسرة على المجتمع وقيمه وضوابطه العرفية الثقافية. دون أن ننسى خلفيات ما يسمى ب (الحركات التحررية للمرأة) ذات المرجعية العلمانية الليبرالية، التي نشأتْ وترعرعتْ في مصر، ثم استَشْرَتْ في كل الأقطار العربية بما فيها المغرب.
إن الذين يرفعون هذا التحدي (تحرير المرأة) في المغرب، ليسوا بقامة قاسم أمين، ولا سعد زغلول، ولا محمد عبده ولا …، إنهم مجرد شرذمةٍ قليلون من الأميين والفقراءِ معرفيا وثقافيا وعلميا، وإنهم لمجتمعاتنا المحافظة لغائظون، إنهم لا يُحسنون حتى الحديث في المنابر والمحافل وفي وسائل الإعلام، فما بالك بالقراءة والكتابة والتنظير والتطوير والتخطيط، إن كل رأسمالِهم، منابرُ مأجورةٌ ومفضوحة، ومعروفٌ مُلاكها ومعروفة أهدافهم، فأنَّا لهم ما يتمنون. إن مطلب تمتيع المرأة بحقوقها، كحقِّها في التعليم والعمل وحرية الاختيار، وتقييد الطلاق بأسباب وجيهة ومنطقية و…، على قدم المساواة مع واجباتها الجليلة (إقامة الأسرة وتربية الأجيال وبناء المجتمعات) أمر لا بد منه، ومطلوب بل ومُلحٌّ، رغم تحفظنا على بعض الأمور التي تم اقحامها عمدا وبشكل مُبيَّت وبسوءِ نية، لا لأجل المرأة كما يروج هؤلاء النفعيّون، ولكن لاستهداف المرأة نفسها. من قبيل مطلب مساواة المرأة بالرجل في الميراث، والقضاء على الحجاب الذي هو قِوام من مقومات الثقافة العربية، وعرفٌ متواتر في اللباس العربي، تحرسه قوانين المجتمع وسلطته الأخلاقية، ومن سابع المستحيلات إنهاؤه أو تحجيمه أو القضاء عليه. وتعرية المرأة، والزّجِّ بها في توافِهِ الأمور لإلهائها عن مهمتها الجليلة ورسالتها النبيلة وأمانتها العظيمة. لن ولن يفلح هؤلاء أبدا في حروبهم ضد السلطة الأخلاقية والعرف والوعي الجمعي للمجتمع العربي، كما لن تتقدم أو تتطور المرأة العربية بالكشف عن ثدييها أو عرض فخذيها وسُرّتها، إنها بهذا السلوك تُكرِّس نفسها كسلعة (مُغرية) وإن كان الإغراءُ لا يَنسجمُ وقبحَ اللواتي يرفعن شعار التنورة، ويُنادِين بها كرمزٍ للتنوير، وفي المقابل تجد عقولهن في حِجْر مكنون ليس فيه حتى بديهيات المعارف وبسيطِ المعلومات. فمَنِ الأوْلى بالكشفِ عنهُ !!، النَّهدُ والأردافُ أم العقل !!!!؟ إنها وبكل بساطة، حالة من تبرير الاختيار، فاللواتي يُنادين بالتنورة لا يفعلون ذلك سوى لأنهم يمتلكنَ تنّوراتٍ في دُرْج الملابس، ويرغبون في لبسها لعرض مفاتنَ موهومة، يعتقدنَ أنها قد تحجبُ بعضا من قبحهنَّ وهرمهنّ، ونسوا أن العطار لا يُصلح ما أفسده الدهر. إنها بكل بساطة محاولة لإشهار لحم فاسد، كَسَدَتْ سُوقه منذ زمن، وعافَهُ الناس ولو مجانا، لحمٌ تفوَّقَ عليه لحمُ البقر والغنم ثمنًا وجودةً وفائدة . ودمتم سالمين.